تربطنا بأسبانيا علاقات تاريخية تعود لعصور ما قبل التاريخ فإذا كان جزؤها الشمالى تأثر بشماله الأوربى القريب منه، فإن نصفها الجنوبى تأثر تأثرًا شديدًا بحضارات المتوسط التى أتت من بلادنا وننتمى إليها بصورة تفوق الخيال، وهذا الموضوع غير معروف البتة للكثير منا إلا للمطلعين، فقد قام الفينقيون بتأسيس عواصم هذا البلد الجنوبية من قادس إلى طريفة وملقا والمرية وتوغلوا إلى الداخل حتى وصلوا إلى إشبيلية وقرطبة وسكنوها وهى نفس المناطق التى قام الرومان بعدها بالتوسع فيها – ولم يقل أحد على ذلك احتلالاً - ليقوم العرب بقدومهم إليها فى بداية القرن الثامن الميلادى بسكناها وتطويرها لتأخذ طابعهم المميز والغير قابل للتقليد أو ما نسميه بالسهل الممتنع، ليقوموا بعدها بالتوسع وليمتدوا منها إلى الريف ومناطقه الجبلية ولينشروا فى كل مناطقها ما عرفوه واحترفوه وأجادوه وقتها من زراعات وصناعات وحرف لتحمل المنطقة طابعًها المميز إلى اليوم.. أى الطابع العربى.. الذى مازال هواء هذه المناطق ونسيمها يفوح به حتى الآن، ومازالت حجارة الطرقات والمبانى المزخرقة والجميلة والعتيقة ومسارات الينابيع والجداول إلى الحقول والوديان تئن به، ومازالت طيورها تردد نغماته رغم محاولات مستميتة وأخرى بالغة الحرص على إزالته.. دون نجاح، وما لم يتمه الأسبان من تشويه وتدمير وإعادة تشكيل لهذا الطابع العربى المميز خلال قرون خمس ماضية هو أحد أسرار نجاحهم اليوم، فالسياحة فى أسبانيا - أو أهم مصدر للدخل فيها – ومنذ عرفت البلاد السياحة تعتمد اعتمادًا بالغًا على الترويج المكثف والدعاية المتقنة لما خلفه العرب فيها من تراث ثقافى حضارى، مع صوت خافت ملىء بمشاعر الندم والعض على الأصابع من طرف المتخصصين والمتحضرين الأسبان العارفين للقيمة الحضارية لما خلفه العرب بما آل إليه بعدها بسبب الدمار الذى لحق بها كنتيجة لذلك الهوس الدينى المسيحى الذى صاحب ولاحق طردهم من البلاد وتخليصها من آثارهم "الكافرة.. الغير مؤمنة"، كما كان يقال وقتها، ولما كان سيكون الأمر عليه لو أن نصف ما تركه العرب قد حفظ ولم يتعرض لهذا النهب أو السلب أو التشويه المتعمد والتدمير المجنون.. لعلها تكون عبرة لمحترفى الهوس الدينى ومن يؤججه ويحرض عليه فى بلادنا فى وقتنا المعاصر.
أما عن التجربة الأسبانية الديمقراطية المعاصرة وكيف نجحت وتدعمت لتصل إلى ما نراها اليوم فالجواب قصير ويتمثل فى أن الشعب الأسبانى بعد موت الجنرال فرانكو عام 1975 لم يعد يستطيع تحمل المعاناة من تبعات ديكتاتورية أخرى مثيلة، فتجربة ولمرة واحدة فى عمر البلاد تكفى وهذا ما كان، ومن المعروف أن ديكتاتورية فرانكو العسكرية ارتبطت بهوس دينى منذ نهاية العقد الثالث من القرن الماضى لتلعب الكنيسة وحليفها الإقطاع دورًا كبيرًا فى تأسيسها وفى بطش العسكر تحت قيادة الجنرال بتجربة اشتراكية ندرت مثيلتها فى العالم لتقوم الحرب الأهلية لينقسم العالم وقتها، وكعادته منذ الأزل، بين مؤيد ومعارض لتنضم القوى الفاشية اللا دينية ممثلة فى هتلر وموسولينى إلى جانب العسكر الأسبان ولينضم كل صوت حر فى العالم إلى الجانب الخاسر، ولتخسر معه أسبانيا، لتصبح بعدها جزيرة منغلقة على نفسها ولتقاد البلاد بالعسكر إلى العزلة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية أو نهاية الحرب الأهلية إلى منتصف السبعينيات وموت الجنرال – صديق العرب – ليسدل الستار على أبشع تجربة أوربية حديثة حُرِم فيها الشعب من تنظيم الأحزاب والنقابات عدا الجماعات الدينية والموالية للنظام العسكرى والقائد الملهم فرانكو - رجل النظام وحبيب الملايين - ومنع الشعب من حق إبداء الرأى الحر وحق التظاهر وعم الخوف حتى من الحديث بجوار الجدران والحيطان وهاجرت العقول.. ولكن رغم كل مساوئ هذه الديكتاتورية وقبحها المعترف به لم تسمح باللا نظام أو بالعشوائيات لتقوم وتلتهم الأخضر المزروع واليابس من الأراضى وليقف قفا هذه البيت فى واجهة آخر أو واجهة الآخر فى مقابل جانب صعلوك لمشوه بنائى من أكشاك الفقر أو بأن تصبح المزابل والمقابر مساكنًا لمواطنيين حتى ولو كانوا مقهورين ومسلوبى الإرادة، أو فى انتشار المستجمات على شواطئ البحار لتمنع أولاد البلد وبناته من حق العبور السلمى لا المسلح على هذه الشواطئ أو الاستمتاع بها والجلوس عليها وأمامها إلا بدفع المعلوم والغير معلوم – كما هو الحال فى ظل ديكتاتوريات مماثلة نعرفها!
ومع قيام الديمقراطية الأسبانية ازدهر الشعب وعادت مقولة (من ليس فى حزبى فهو ضدى) أو (عدو عدوى صديقى) من أقاويل الأمس البعيد رغم قربه ومن أقاويل الباطل واللا حق وليصبح الشعب على ما نراه عليه الآن – فلا بشرى للصائمين عن الحق والخانعين للذل وعلى معرفة كاملة به!
أما عن التجربة الأسبانية الناجحة الثانية فتتمثل فى الحصول على ما يسمى (بالطاقة النظيفة) غير المكلفة وقد نجحوا فيها نجاحًا يحسدون عليه، والمهم فى هذا الخصوص أن مراكز البحوث التى خططت لهذا المشروع الحيوى كانت أسبانية محلية خالصة لم تحتاج فى الإعداد لها إلى مشورة مستغلين أو إلى نهازى الفرص من المراكز العالمية ممن يوصى لنصدقه فى الحال ببناء محطات نووية ذرية على الشواطئ أو فى المناطق التى يمكن لها أن تكون محميات طبيعية.. فى وقت يستعيض فيه العالم عن هذه المحطات الخطيرة بالبديل من رياح موسمية وشمس - كان قدماؤنا يقدسونها بل ومازالت آثارها على معابدنا.
وهدف أسبانيا من هذا المشروع كان الحصول من خلال استغلال الطاقة الشمس وقوة الرياح على 12 إلى 18% مما تحتاجه كليًا من طاقة كهربائية وقد نجحوا حتى الآن فى الوصول إلى نسبة 12% من احتياجات كل البلاد بهذه الطريقة.. فهل من عاقل يجير؟
• أستاذ علوم سياسية بجامعة ونسبروك بالنمسا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة