من أسوأ عاداتنا كعرب وكمسلمين التعميم، بمعنى أنه لو سرق مصرى، فالمصريون جميعًا لصوص، ولو قتل يمنى فاليمنيون كلهم قتلة، ولو زنى عراقى فالعراقيون كلهم زناة رغم أن القرآن الكريم نفسه أكد أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأجمل ما فى ديننا أنه يعمل العقل فى كل شىء قبل العاطفة ولذلك فإن الآيات التى تحث على استعمال العقل لا حصر لها ولا عدد فى القرآن حيث يقول الله تعالى:"لأولى الألباب" (آل عمران 190) ، "أفلا تعقلون" (البقرة 44 ، 76) ، (آل عمران 65) ، "لآيات لقوم يعقلون" (البقرة 164) ، "إن كنتم تعقلون" (آل عمران 118) صدق الله العظيم.
تذكرت ذلك وأنا أحاور إحدى صديقاتى حيث قالت لى:"أنا أكره الفراعنة لأنهم كفرة ولأن منهم فرعون موسى" وحاولت التنصل من انتسابها إليهم بادعاء أنها ربما تكون من سلالة عربية أتت مع عمرو بن العاص حين فتح مصر وكأن انتسابها إلى الفراعنة شىء مخزٍ وتهمة حاولت نفيها عن نفسها.. تمالكت نفسى وأنا أجيبها وقلت فى هدوء: "إذن أنتِ تكرهين السيدة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام وأم سيدنا إسماعيل الذبيح عليه السلام وجدة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه حيث قال:"أنا ابن الذبيحين عبد الله وإسماعيل" وترين أنه لا داعى للقيام بشعائر السعى بين الصفا والمروة لمجرد أن السيدة هاجر مصرية من العصر الفرعونى وهى تعد أمًا لكل العرب مصريين وغير مصريين؟ وكذلك تكرهين السيدة آسيا زوجة فرعون وترين أنها لا تستحق القصر الذى بناه الله لها فى الجنة ولا تستحق أن تكون زوجة لسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، يوم القيامة لمجرد أنها مصرية من الفراعنة؟ وأعتقد أيضًا أنك تكرهين ماشطة فرعون التى ألقى بها فى النار هى وأولادها الذين كان من بينهم رضيع هو أحد الثلاثة الذين تكلموا فى المهد والتى رآها الرسول صلى الله عليه وسلم فى الجنة يوم أُسرِىَ به لمجرد أنها من الفراعنة.
كما لا شك أنك تكرهين سيدنا موسى عليه السلام لأنه تربى على يد امرأة من الفراعنة وتعلم وترعرع فى بيت فرعونى حيث قال فرعون مخاطبًا موسى:"أو لم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين" (الشعراء 18). صحيح أن القرآن الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يذكر صراحة أن فرعون كان يدعى الألوهية وكان كافرًا وكان مجرمًا لكنه لم يعمم هذه الصفات على كل الفراعنة بل خص بها شخص واحد هو فرعون موسى فقط ، بينما حين تكلم عن الفراعنة الأخيار أعطى ثلاثة أمثلة لنماذج مشرفة منهم وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
فلماذا نأخذ نموذجًا واحدًا سيئاً ثم نعممه على كل الفراعنة؟ أين إعمال العقل؟ إن التعميم هو آفة مجتمعاتنا التى يجب أن نستأصل شأفتها وهذا يعنى أننا نقرأ القرآن دون فهم أو تدبر؛ فالله تعالى لا يضرب الأمثال لكى يقول لنا اكرهوا الفراعنة لأن فرعون منهم أو اكرهوا العراقيين لأن منهم الملك الذى أحرق سيدنا إبراهيم عليه السلام أو اكرهوا قبيلة قريش لأن أبا لهب وأبا جهل منها، فمن هذه القبيلة نفسها خرج رجل مبشر بالنار هو أبو لهب ورجل آخر مبشر بالجنة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأحباش خرج أبرهة الأشرم الذى حاول هدم الكعبة وخرج بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن التعميم فيه ظلم كبير لأى مجتمع لكن القرآن أتى بالأمثال ليرينا أن الذى يصد عن سبيل الله ويفسد فى الأرض أيًا كانت جنسيته فهذا جزاؤه، وإذا سلمنا بأن المصريين القدماء- مثلهم مثل كل الشعوب القديمة- كانوا مشركين (على الرغم من أنه كانت هناك فترات من التوحيد والاستجابة للأنبياء) فلننظر إلى حضارتهم كى نتعلم منها يعنى مثلا ً لا يصح أن نقاطع الكمبيوتر لأن الأمريكان هم مخترعوه ولا أن نقاطع الفيزياء وقوانين الجاذبية والطفو وعلم النفس لأن اليهود كان لهم باع فى هذه العلوم ولا أن نقاطع المصباح الكهربائى لأن رجلا غير مسلم هو الذى اخترعه!
وبالطبع لا يعقل أن نقاطع قدماء المصريين بكل ما يملكون من سبل الحضارة والتقدم والرقى والأخلاق لمجرد أنهم كفار بل إن الشعب المصرى هو الشعب الوحيد الذى آمن بالبعث والحساب وأعطوا الموت اهتمامًا أكبر من الحياة حتى أن بعض المؤرخين قالوا إن الحضارة المصرية حضارة موت وهو ما عجزنا نحن اليوم فى القرن الحادى والعشرين أن نفعله، والشعب المصرى هو أكثر شعب متدين على الإطلاق حتى قال هيرودوت عنه:"المصريون قوم يخافون الله"، ولا ننسى أن سيدنا موسى عليه السلام عندما خرج ببنى إسرائيل من مصر كان معه بعض المصريين الذين آمنوا به وبرسالته وخرجوا معه خوفاً من بطش فرعون وحينما ارتد بنو إسرائيل وعبدوا العجل ارتدوا وحدهم أما المصريون الفارون معهم فقد ثبتوا على دينهم.
أرأيتم المصرى حين يؤمن كيف يتمسك بدينه! فهل بعد كل ذلك سنتبرأ من انتسابنا لأجدادنا الفراعنة بزعم أنهم كفار؟ رغم أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يتبرأ من انتسابه لقبيلة قريش الكافرة وعمرو بن العاص لم يتبرأ من انتسابه لأبيه العاص بن وائل المشرك بل كان فخورًا به حتى لقد كان يفخر به على الخلفاء كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان. وإذا كان إبراهيم عليه السلام قد تبرأ من أبيه فالمقصود أنه تبرأ من ديانته الوثنية وليس من انتسابه إليه.
وإننا لمأمورون أن نقرأ وندرس تاريخ الفراعنة وغيرهم من الأمم السابقة ففى سورة محمد يقول الله عز وجل :"أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" (محمد 10) كيف سنتدبر عاقبة الذين من قبلنا إلا إذا درسنا تاريخهم؟ إذن الانتساب إلى الكفار ليس ذنبًا يجب التوبة منه والاستغفار، كما أننا لا يجب أن نترك اليهود ينسبون أنفسهم إلى أجدادنا كما حدث عندما جاء "بيجن" بعد توقيع معاهدة السلام ووقف أمام الهرم الأكبر وقال:"هذا بناه أجدادى".. أنقذوا تاريخكم قبل أن يسرق منكم يا أولى الألباب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة