منذ عشرين عاماً وأكثر أقلعت تماماً عن متابعة المسلسلات التليفزيونية، خصوصاً فى الموسم الرمضانى الحافل بالدراما الساذجة المفروضة علينا نحن المشاهدين المتخمين بعد مائدة الإفطار والذين لا يملكون من أمرهم شيئاً فيجدون المسلسلات تطاردهم كوحش خرافى، بينما تمنعهم المعدة الممتلئة من الهرب أو حتى الاستغاثة فيستسلمون لقدرهم أمام شاشة التليفزيون..
لذلك كنت أحرص على ألا أملأ معدتى بالطعام عند الإفطار حتى أكون خفيفاً قادراً على الهرب عندما يخرج الوحش التليفزيونى من الشاشة الصغيرة..
أحياناً بالطبع كان الوحش ينتصر على ويجبرنى على مشاهدة حلقة من هذا المسلسل أو حلقات من ذاك.. وأحياناً بالطبع كان يوجد مسلسلات شاذة تتمتع بمستوى فنى جيد جداً.. ولكننى وطوال سنوات طويلة سابقة لم يحدث أبداً أن ارتبطت بمتابعة أحد المسلسلات التليفزيونية على الإطلاق.
ولكى أكون أكثر تحديداً يمكن أن ألخص سمات هذا الوحش التليفزيونى الرمضانى فى النقاط التالية التى تشكل "دليل المشاهد الغلبان فى متابعة مسلسلات رمضان":
تترات المسلسل لابد أن تمتد خمسة دقائق على الأقل (لزوم المط والتطويل) وغالباً ما تستطيع أن تتنبأ بكل أحداث المسلسل من التتر الذى يتضمن لقطات بالسرعة البطيئة لانفعالات الممثلين وكام واحد بيعيط وكام واحد بيضحك وكام واحدة بتنضرب بالقلم.
تترات المسلسل لابد أن تبدأ باسم نجم سينمائى تقاعد بعد أن لفظه شباك التذاكر أو نجمة جماهير سابقة لم يعد لها وجود على شاشة السينما فأصبحت شاشة التليفزيون هى السبيل أمامه أو أمامها لمطاردة الجماهير فى بيوتها.. ونصف الأسماء الباقية فى التترات هى لأنجال ممثلين يمتلكون القليل من الموهبة ويمتلك آباؤهم الكثير من النفوذ والعلاقات التى تجعل قضية التوريث تنتقل من عالم السياسة إلى عالم الفن والتمثيل.
إذا فاتتك حلقة أو حلقتين أو عشر من المسلسل فلا بأس أبداً.. فلن تفوتك أى أحداث فمن الممكن أن يتثائب البطل فى حلقتين ويستيقظ من النوم فى ثلاث حلقات ليجد إبنته وقد ضربت عقد عرفى مع زميلها فى الجامعة وزوجته وقفت فى وجه رجل أعمال من النوع الواصل قوى ورفضت رشوة بعشرة مليون جنيه.
عندما تشاهد حلقة من المسلسل تستطيع أن تتوقع أحداث الحلقات العشر القادمة ببساطة.. وفى بعض الأحيان يكفى أن تقرأ اسم البطل أو البطلة لتعلم مسبقاً أحداث المسلسل بالكامل التى لن تخرج عن التيمة الرئيسية التى قدمها هذا النجم أو هذه النجمة خلال السنوات الماضية.
رغم أن جهاز التليفزيون أمامك بالألوان إلا أن كل الشخصيات الموجودة فى المسلسل مرسومة بالأبيض والأسود.. فهى إما بيضاء وخيرة وطيبة ومثالية.. وإما سوداء وشريرة وحقودة.. وأحداث المسلسل هى مواعظ وحكم تلقيها علينا الشخصيات البيضاء ومؤامرات من الشخصيات السوداء التى تتفنن فى وضع الخوازيق للجميع بسبب وبدون سبب.
سوف تكتشف أن الكائنات الموجودة داخل المسلسل تتحدث من قفاها.. فكلما أراد البطل أن يخاطب البطلة يجب عليه أن يعطيها قفاه ليواجه الكاميرا ثم ينطق بجملة الحوار.. ثم يستدير ليجدها بدورها تستدير لتواجه الكاميرا الأخرى وتعطيه قفاها وترد عليه بجملة الحوار الخاصة بها.
المسلسل البوليسى يجب أن يكون فيه عصابة.. والمسلسل التاريخى يجب أن يكون مليئا بالطرابيش أو الذقون والعباءات.. والمسلسل الصعيدى يجب أن يكون فيه "عتريس وفؤادة وتار وعمم ورجالة ماشية معلقة البندقية فى كتفها".. والمسلسل الإجتماعى يجب أن يكون فيه "واحدة مُلعب بتوقع الرجالة".. والمسلسل الكوميدى يجب أن يكون فيه مجموعة من العاهات المتحركة تستظرف فى كل جملة حوار وتتصنع فى كل حركة وتكاد تمد يدها من شاشة التليفزيون لتزغزغ المشاهدين غصباً عنهم.
ولكن.. شاشة التليفزيون فى هذا الموسم الرمضانى حملت لى المسلسل الذى أجبرنى على أن أراجع حساباتى.. المسلسل الذى أطاح بكل القواعد الموجودة فى "دليل المشاهد الغلبان فى متابعة مسلسلات رمضان".. ولأول مرة منذ زمن طويل جدا أجدنى مجبراً على انتظار أحد المسلسلات ومتابعته.. وأجد أن ضياع حلقة أو حتى بضعة مشاهد يمكن أن يفقدنى متعة مشاهدة مسلسل "أهل كايرو".
منك لله يا بلال يا فضل على هذا الورق الرائع والشخصيات المصنوعة من لحم ودم والمغموسة فى تفاصيل تفاصيل الواقع.. ومنك لله يا محمد يا على على هذا الإخراج المتميز والإيقاع المتلاحق.. ومنك لله يا خالد يا صاوى على هذا الأداء الهائل الجبار.. ويا حسين يا جسمى على هذه الأغنية التى تمس الوجع فتطبطب عليه برفق دون أن تدميه.. ويا عشرات الممثلين الذين أدوا أدوارا صغيرة ولكنها كانت منسوجة بخيوط من حرير السهل الممتنع (راجع مشهد أخذ بصمات العاملين فى الفندق).
منكم لله.. فقد جعلتمونى أعود فأستسلم لوحش الدراما الرمضانية.. وأعود فأستشعر حلاوة الدراما التليفزيونية بعد طول غياب.