فى ليلة رمضانية وبعد مشاهدتى لأكثر من عشر حلقات من مسلسل الجماعة، جلست أفكر هل وجود الإخوان أمر مهم لمصر والعالم الإسلامى؟ وهل هذا الوجود ضرورة فعلية للدعوة الإسلامية؟ ألا يمكن أن يقوم بدورهم الأزهر والجمعيات والجماعات الدينية الأخرى؟ هل أضافوا شيئا لتدين الشعب المصرى؟ وهل إذا غابوا أو اختفوا عن الساحة يتعرض الإسلام لمصيبة كبرى؟ وماذا قدموا للأمة الإسلامية ولقضاياها الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل قضية فلسطين والفقر والجهل والمرض؟ وهل كسبت مصر شيئا بجماعتهم أم أنها خسرت كثيرا؟ وهل تركوا أية بصمات إيجابية على المجتمع المصرى الذى نشأوا وترعرعوا فيه أم تركوا بصمات سلبية؟ هل تحسنت أخلاقيات الشعب بسبب دعوتهم أم ازدادت سوءا ؟ هل كان من الأفضل أن يقتصروا على الدعوة وتربية المجتمع تربية إسلامية؟ أم الأفضل أن ينخرطوا أيضا فى العمل السياسى؟ هل يشعر الناس فعلا بدور الإخوان المسلمين سواء الدعوى أو الخدمى أو السياسى؟ أم أن الفائدة تقتصر على أفراد الجماعة فقط؟
أسئلة كثيرة بعضها ربما مكرر وبعضها متداخل مع البعض الآخر وبعضها يفتح الباب لتساؤلات أخرى لكن التعرض لها جميعها أو غالبيتها سيعطى فكرة أوضح عن هذه الجماعة التى أصبحت مادة إلزامية على كل وسائل الإعلام سواء المحبة أو الكارهة لهم، فكل من يريد انتشارا واسعا وتوزيعا كثيفا لابد أن يتعرض للإخوان إن بالخير أو بالشر، ومعظم الحكومات العربية والإسلامية تتوجس منهم خيفة وتنكل بهم وتفتح خزائنها لمن يهاجمهم.
حين أسس حسن البنا جماعة الإخوان فى الإسماعيلية فى العام 1928 كان ذلك بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية فى تركيا على يد الكماليين، وكانت مصر ترزح تحت الاستعمار البريطانى الذى نجح فى إحلال الكثير من عادات وقيم وأخلاقيات المجتمعات الغربية فى المجتمع المصرى، كانت دور البغاء مصرحا بها بشكل رسمى ولها مقار معروفة يتردد عليها من يريد تحت حماية الدولة وكانت محال بيع الخمور والحانات تنتشر فى كل مكان بشكل علنى وقانونى، وكانت المساجد تشكو الهجر ولا يؤمها إلا الطاعنون فى السن، وكانت المحاكم الحديثة لاتحتكم للشريعة الإسلامية بل لقوانين المستعمر، كان الجهل والأمية هما سمة غالبية المصريين الذين كان مستحيلا على غالبيتهم الذهاب للمدارس والجامعات، كانت الأمراض توقع مئات الموتى والمصابين سنويا بل شهريا دون أن يتمكن المواطنون من الذهاب إلى مستشفى أو عيادة طبيب، وفى الشأن السياسى كانت قيادة الدولة المصرية ممثلة فى الملك وغالبية الأحزاب تأتمر بأوامر الإنجليز المستعمرين، وتتناحر فيما بينها على الفتات دون أدنى إهتمام بهموم ومصالح الشعب، وكانت فلسطين تتعرض لحرب عصابات للسيطرة عليها تطبيقا لوعد بلفور المشئوم، فى ظل هذه الأجواء نشأت جماعة الإخوان بهدف إعادة إحياء القيم والسلوكيات والقوانين والوحدة الإسلامية التى دمرها المستعمر وأعوانه من المستغربين، ومن وصفوا أنفسهم بالعلمانيين والليبراليين الذين سيطروا على وسائل الإعلام والتثقيف وسخروها للترويج لقيم المستعمر وسلوكياته بدعوى أن ذلك هو السبيل الصحيح للتقدم والرقى.
حين نشأت جماعة الإخوان لم تكن هى الوحيدة التى تتحدث باسم الإسلام فقد كان هناك الأزهر الشريف، وإلى جانبه كانت هناك جمعيات دينية مثل الجمعية الخيرية الإسلامية التى تأسست بعد 10 سنوات من دخول الاحتلال الإنجليزى أى سنة 1892 على يد الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وطلعت حرب، والجمعية الشرعية التى أسسها الشيخ محمود خطاب السبكى فى العام 1912، وكانت هناك جمعيتان كبيرتان تأسستا قبل عام أو عامين من تأسيس الإخوان هما جماعة أنصار السنة المحمدية التى أسسها العالم الأزهرى محمد حامد الفقى فى العام 1926 وجمعية الشبان المسلمين التى تأسست عام 1927، وإلى جانب هذه الجمعيات كانت هناك الطرق الصوفية المختلفة، أى أن الساحة الدينية كانت مليئة بالجمعيات والمؤسسات الدعوية لكن الحقيقة أن هذا الحشد الدينى لم يكن كافيا لمواجهة ما زرعه الاستعمار فى مصر، وما حل بالأمة الإسلامية من نكبات بعد سقوط الخلافة، فالأزهر الشريف هو مؤسسة علمية فى المقام الأول، رغم أنه قام بأدوار مقدرة على الصعيد السياسى والاجتماعى، والجمعيات الدينية الإسلامية تخصصت كل واحدة منها فى فرع من الفروع وركزت نشاطها فيه، ولم يكن مسموحا لها بحكم القانون العمل بالسياسة والشأن العام، والطرق الصوفية شارك أغلبها فى تسطيح وعى الشعب ونشر البدع والخرافات بينه، وصرفه عن مقاومة الاستعمار.
من هنا جاءت جماعة الإخوان بدعوة شاملة لكل مناحى الإسلام من دعوة وتربية وتعليم ورياضة وسياسة واقتصاد وقانون فى محاولة لإصلاح الخلل الذى لحق بهذه النواحى جميعا على أسس إسلامية.
بدأت الجماعة عملها كما هو معروف فى الإسماعيلية التى كانت فى حينها مقرا لقوات الاحتلال الإنجليزى ولشركة قناة السويس الإنجليزية الفرنسية، وكانت الإسماعيلية هى الأكثر تأثرا بالقيم الأوروبية التى جلبها المستعمر والمخالفة فى كثير منها للدين الإسلامى، وكان على دعوة الإخوان أن تدخل معركة مبكرة مع هذه القيم الوافدة الغريبة عن المجتمع المصرى ونجحت الجماعة فى ذلك حين قلصت أو أنهت بيوت البغاء وعمرت المساجد، وحاربت عربدة الجنود الإنجليز المخمورين، وأسست مدارس لمنح جرعة أكبر من التربية الإسلامية، ثم انتقل مقر الجماعة الرئيسى إلى القاهرة لاحقا ليشرف على مئات بل آلاف الشعب ( لجان لإخوان) المنتشرة فى قرى ومدن مصر من أقصى الصعيد وحتى شمال الدلتا ومن مدن القناة وحتى الحدود الغربية، وزاد عدد أتباعها إلى الحد الذى دفع كاتبا بحجم إحسان عبد القدوس لكتابة مقال بعنوان "الرجل الذى يتبعه نصف مليون"، وكان حديث الثلاثاء فى مقر المركز العام فى الحلمية (مقر قسم شرطة الدرب الأحمر حاليا) يجتذب آلاف المصريين فى مشهد يمتد حتى باب الخلق حسبما وصفته مؤخرا إحدى ساكنات ذلك الحى فى ذلك الوقت الكاتبة الكبيرة نعم الباز.
من الواضح أن الجماعات والجمعيات الدينية التى كانت قائمة فى مصر فى ذلك الوقت لم تكن كافية لمواجهة الغزو الثقافى والاجتماعى الغربى، ولم تكن قادرة على مواجهة موجة التحلل القيمى فى المجتمع، أو مواجهة حال التفكك فى الأمة الإسلامية، والتهديدات المتتابعة للدين الإسلامى والعقيدة الإسلامية، وذلك بسبب اقتصار تلك الجماعات والجمعيات على جزئيات بعينها، أو نشأتها فى أحضان النخبة وكبار الباشاوات والإقطاعيين الذين كانت مصالحهم تحول دون القيام بأدوار كبرى ومؤثرة، ومتعارضة بشكل سافر مع الاستعمار وأعوانه، ومن هنا جاء المنهج الجديد للإخوان بشموليته التى تجمع بين الدين والدنيا والعقيدة والشريعة والمصحف والسيف( فى إشارة إلى التقوى والجهاد)، وهو أمر لم يكن معهودا من قبل إلا فى كتابات بعض رموز الإصلاح مثل محمد عبده ورشيد رضا والأفغانى، لكن مشكلة هؤلاء الرواد أنهم كانوا أفرادا، وكان لهم مريدون، لكنهم لم يتحولوا إلى عمل جماعى منظم يحمل هذه الأفكار ويمشى بها بين الناس ويدعو إلى تطبيقها، ويضع الخطط والموارد اللازمة للتطبيق، وهو ما يذكرنا بالفقيه المصرى العظيم الليث بن سعد الذى قال عنه الإمام الشافعى: "الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وفى رواية إلا أنه ضيعه أصحابه"، فى إشارة إلى عدم قيام هؤلاء الأتباع بحمل مبادئ وتفاصيل المذهب ونشرها بين الناس والعكوف على شرحها وتطويرها وكتابة المؤلفات فى ذلك، كما فعل بقية تلاميذ الأئمة الآخرين الشافعى ومالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، وربما تنبه حسن البنا إلى هذه التجربة فأراد أن يتجنب تلك الأخطاء، فكان أن حمل أفكار محمد عبده والأفغانى ورشيد رضا وطورها، وكون لها جماعة تسعى بها وتنشرها، وربما لولا ذلك ما كتب لتلك الأفكار أن تظل خالدة أو أن تصل إلينا.
لقد نقل الإخوان بالفعل العمل الإسلامى الحديث من خانة الجزئيات إلى خانة الشمول، ومن فقه الوضوء والحيض والنفاس إلى فقه الجهاد ومحاربة المنكرات، والتعامل مع قضايا العصر، وقدموا منهجا جديدا فى الدعوة والإصلاح، انتقل إلى الجماهير فى مواقع جديدة غير المساجد، وقدم نماذج جديدة للدعاة من غير رجال الأزهر، كما قدم نموذجا جديدا لأفراد يذهبون إلى أعمالهم ووظائفهم فى الصباح، ثم تجدهم فى ملاعب الرياضة، ومنها ينتقلون إلى المساجد، ولا يمنعهم ذلك من القيام بواجباتهم الاجتماعية الأخرى فى المجتمع المحيط بهم، وساهم بذلك بجهد كبير فى الحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع المصرى التى تعرضت لطعنات قوية على يد الاستعمار وأعوانه، وتمكنت دعوة الإسلام من إعادة الاعتبار لحجاب المرة المسلمة بعد أن كان ينظر إليه باعتباره مظهرا من مظاهر التخلف الحضارى ورمزا للريفيات فقط، وبلغ النجاح ذروته باعتبار الحجاب فى الوقت الحالى الزى الشعبى لغالبية المصريات.
كما خرجت مدارس الإخوان آلاف الطلاب الأكثر التزاما بقيم وسلوكيات دينهم، ونشر طلاب الإخوان الأخلاق الإسلامية فى الجامعة بعد أن كان ينظر إلى المتدينين نظرة سلبية بوصفهم " أريافجية" وبعد أن كان الباحث عن مجرد فتاة محتشمة( لا محجبة) كالباحث عن إبرة فى كوم قش، كما كان لمدارس الإخوان ومساجدهم وأفرادهم دور كبير فى محاربة الأمية، ونجحت مستشفياتهم ومراكزهم الطبية فى تقديم العلاج الاقتصادى لآلاف بل لملايين المصريين من خلال حوالى 25 فرعا للجمعية الطبية الإسلامية ناهيك عن عشرات بل مئات المستوصفات الملحقة بالمساجد، ورغم أن الإخوان لم يتعاملوا بعنف مع حانات الخمور التى انتشرت فى بر مصر فى الثلاثينات والأربعينات كما فعلت حركة مصر الفتاة إلا أنهم أسهموا بقدر كبير فى دفع هذه الحانات لإغلاق أبوابها بعد أن هجرها روادها المتأثرين بالدعوة الإسلامية، وكان للإخوان دور كبير فى مواجهة حملات التبشير التى كانت جزءا من الاستعمار، ونبهت الشعب لخطورة هذه الحملات، ولاحقت المبشرين أينما ذهبوا فى قرى مصر ومدنها.
ووقف الإخوان ضد مظالم الملك وسفاهاته حتى دفع مؤسس الجماعة حياته ثمنا لهذه المواقف حين رتب الملك عملية اغتياله فى شارع رمسيس، كما حاربوا مظالم الإقطاع وحرصوا على تجنيب دعوتهم لهيمنة الكبراء، وظلوا حريصين على التواجد بين صفوف الفقراء والبسطاء ولعل نظرة واحدة على بداية تأسيس جماعتهم تؤكد هذا المعنى إذ كان المؤسسون الأوائل مع البنا هم من فئة العمال والحرفيين.
وأعطى الإخوان قضية فلسطين اهتماما خاصا فى وقت برر فيه رئيس وزراء مصر تخاذله عن تلك القضية بأنه رئيس وزراء مصر وليس رئيس وزراء فلسطين!!، وجاب مندوبو الجماعة أرجاء القطر المصرى يجمعون التبرعات لمجاهدى فلسطين بل وتطوع عدد كبير منهم للقتال فى فلسطين، وقاموا بعمليات بطولية، وهو ما أكده لى شخصيا العديد من القادة القدامى الذين شاركوا فى حرب فلسطين وكان منهم الفريق فؤاد عزيز غالى واللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثانى الميدانى إبان حرب أكتوبر، بل انهم قدموا أعظم عطاء للقضية الفلسطينية من خلال فرعهم فى فلسطين وهى حركة حماس التى قادت المقاومة ضد الاحتلال حتى يومنا هذا إلى جانب شقيقاتها فى حركات المقاومة الفلسطينية الأخرى.
وحين عاد الإخوان للحياة العامة بعد تغييبهم فى السجون لسنوات طويلة فى الحقبة الناصرية، وكانت مصر قد تعرضت مرة أخرى لهجمة إباحية تغريبية أخرى جاءت هذه المرة من قبل المعسكر الشيوعى وأنصاره فى الداخل عاد الإخوان مرة أخرى لممارسة دعوتهم حفاظا على الهوية الإسلامية للمجتمع، ورعت قيادتهم براعم الصحوة الإسلامية فى الجامعات منذ منتصف السبعينات، حتى عاد الوجه الحضارى الإسلامى لمصر رغم أنف التغريبيين، وحين تخرج هؤلاء الطلاب الجامعيون حملوا الدعوة إلى مدنهم وقراهم ودخلوا بها إلى ساحات العمل العام مثل النقابات والنوادي، كما امتدت أيادى البذل والعطاء إلى الكثير من الفقراء والمحتاجين عبر العديد من أعمال البر، ووصلت أصداء دعوة الإصلاح إلى أماكن لم تصلها من قبل ولعل أبرزها مجلسى الشعب والشورى والمحليات والنوادى والنقابات.
نعود إلى عنواننا الرئيسى ماذا لو غاب الإخوان؟ وهل ستخسر مصر والأمة الإسلامية بغيابهم؟ عليك أن تتخيل بعد كل هذه الجهود فى إصلاح المجتمع ونشر القيم الإسلامية فيه ومواجهة حملات التغريب والتخريب المنظمة كيف سيكون الحال لو اختفى الإخوان تحت أى ظرف من الظروف. لن نبالغ أبدا وندعى أن الإسلام سيموت، فقد كان الإسلام قائما قبل دعوة الإخوان وسيظل قائما بهم أو بغيرهم، ولكن هل تستطيع أى من الجمعيات والجماعات الإسلامية القائمة مواجهة مخططات التغريب والتخريب للهوية والقيم ولوحدة الوطن والأمة كما يفعل الإخوان؟ ومن يستطيع مواجهة ظلم وتعسف النظام، وانتهاكه للقيم والقانون - حتى وإن لم يمنعوه تماما من ذلك الظلم - كما يفعل الإخوان؟، ومن الذى يمثل رعبا دائما للفاسدين والمستبدين والتغريبيين أكثر من الإخوان؟ إذن هى تساؤلات تجيب على تساؤلات والمجال مفتوح لمزيد من الاجتهادات.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة