رواية ... محمد صلاح العزب

سيدى برانى

الجمعة، 20 أغسطس 2010 01:26 ص
سيدى برانى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄◄ هل كان أحد يسوقنى من طوق الجلباب يا حفيد الشيخ إلا صاحب الطريق؟ هل كان أحد سواه يقول ادفعيه يا أكف البلاد بضيق الرزق حتى يصل؟

- 1 -
مات أبواى يا مريم قبل أن أتمكن من الكلام، كنت لا أزال محتاجا إلى ظل الثدى، وإلى لبن الثدى، وإلى من يتحسس أسفلى ليرى ما إذا كنت مبتلاً أم لا.
اشتعلت النيران فى بيتنا، وحين أطفأها الجيران وعابرو السبيل ودخلوا لم يجدوا إلا فحم جثتى أبى وأمى فحملوهما وانصرفوا، لكنهم سمعوا بكائى فعادوا، وحين لم يجدوا بى أى سوء، قالوا:
ـ «حكمتك».
وقالوا:
ـ «سبحانه».
وقالوا:
ـ «لكل أجل كتاب».
سيظل الدخان الذى دخل فى صدرى هذا اليوم جاثما عليه، يشعرنى بالاختناق كلما حاولت تذكرهما، وسأتعامل مع النار طوال الوقت باعتبارها عدوا أحرق حياتى منذ البداية، فأُحب الماء والهواء وأجد نفسى فيهما كأننى خارج لتوى من الحريق.
البيت المحترق سيبقى علامة مميزة فى وسط القاهرة لفترة طويلة، يصف به المارة الطريق للتائهين، ويخاف الأطفال من المرور بجواره ليلاً فيجرون من أمامه ليتعثروا فى الحفرة الصغيرة عند نهاية سوره الواطئ، وفجأة ينساه الجميع ولا يذكرونه فى أحاديثهم، كأنه اختفى، أو كأن اتفاقًا سريًّا سَرَى بينهم بتجاهله لعله يختفى من الحقيقة أيضًا. لا يزال البيت باسم جدى فى السجلات الحكومية، ربما أُفكر ذات يوم فى استخراج الأوراق واستعادة البيت الذى غادرتُه رضيعاً، وفقدتُ فيه أبًا وأمًا لا أعرف حتى ملامحهما، ولا أملك عنهما إلا حكايات مبتورة حكاها جدى لسمعان، وذكرها سمعان أمامى غير مكترث، كأنه لا يتكلم عن رجل وامرأة لم يكن هناك مبرر لوجودهما فى الحياة سوى أن يخرجانى إليها ثم يغادرانها برضا من أتم مهمته على أكمل وجه.
ثالث يوم اجتمع أخوالى الأربعة لدى جارتنا التى كفلتنى بعد الحريق، أجمعـوا أمـرهم على أن يلقونى إلى جدى لأبى، فهـو الأَولـى بـأن يُربى لحمته الحمراء، وهو الأولى بأن يضع يده فى نقوده ويقول: خذ.
أخرس كبيرهم كل أسئلتهم عن فقر الجد، وعزلة الجد، وسن الجد الطاعنة.
سأل خالى الأصغر:
ـ «وهل سيقبل؟».
قال الأكبر:
ـ «يقبل رغما عنه، وهل يتمتع ابنه فينجب، ونحمل نحن خراء الرضيع؟».
أمرهم بأن يتحضروا للسفر منذ الفجر، فالطريق من القاهرة إلى سيدى برانى التى تتجاهلها الخرائط عشر ساعات أو يزيد. هذا هو المكان الذى اختاره جدى لعزلته، نقطة شديدة الصغر تشبه حبة رمل فوق الخريطة لا يلتفت إليها أحد.
هذه البلدة اختارت عزلتها هى الأخرى، وظلت معلقة فى الفراغ على الحدود بين بلدين، يعيش أهلها القليلون على رعى الأغنام وتجارة عبوات الشاى والسكر والسجائر، ولو تصادف وزار أحدهم القاهرة وسألوه: من أين أنت يا شيخ العرب؟ سيختصر ويقول: من السلوم، التى تجاورها، بدلا من إضاعة الوقت فى تعريفهم ببلدته المجهولة، التى لا تشبه فى الحقيقة إلا حبة رمل، ربما يمد من يشاهد الخريطة يده ليمسحها من عليها ثم يدرك أنها غير قابلة للمسح.
ولم يبالوا يا مريم بعدم قدرة الرضيع ذى العام الواحد على تحمل اهتزازات الطريق، تحت شمس الصيف، وسط أربعة رجال لا أثداء لهم، ولا يهتمون إن كان جافًا أو متسخ السروال والسيقان.

ـ 2 ـ
العم سمعان يا مريم يعرف كل شىء، ولا يضن بالحكى، أنا من يضن عليه بالسماع، فهو يظل يكرر ما قال، ويُقطِّع، ويتلعثم، ويشرد عن الحكاية، فأمَلّ منه وأنفلت، لكنه يعرف، وعلى من يريد سماع حكايات البداية أن يتحمل.
بعدما وثق جدى به، وشعر أنه سيكون مريده الأمين كان يجلسه أمامه ويحكى له كل شىء، اختبر جدى ذاكرته فى البداية وأيقن من خلوها إلا من حلم قديم لن يؤثر على ما سيقوله له، تعامل معه كورقة بيضاء يخط فيها ما يريد، ليكون سمعان هو كتاب حكاياته الحى، لم يطلب منه أن يحتفظ بما يحكيه له سراً، ولم يصرِّح له بأن يعيد روايته، كأن جدى نسى يا مريم أو تناسى، أو تعمد أن تنتقل حكاياته عبر دوائر صغيرة، فلا تصل إلا لمن يقع فى طريقها أو يسعى إليها، وتظل فى مأمن من سامع لن يقدرها قدرها.

يجلسنى سمعان أمامه، وينظر فى كل الاتجاهات، ولا يواجه عينىّ بعينيه ويحكى:
ـ «أول ما جاء أخوالك إلى سيدى برانى، ونزلوا من السيارة الكبيرة الصفراء التى تبرق فى الشمس كسبيكة الذهب، والتى كُتب على جانبيها كلام كثير بلغة لا أعرفها، تحلق الصغار حول السيارة، وتركت النسوة ما بأيديهن ليتفرجن، نزل أربعة رجال يحملون رضيعا، ويسألون عن الشيخ، ولما علموا أن حوش جدك بعيد، سألوا عن طبيب للرضيع الهالك».
لابد يا مريم أن أخوالى شعروا بالتيه وسط الرمال المحيطة، وأمام وجوه البدو السمراء المعممة بملابسهم المعفرة. لم يفهموا اللهجة البدوية إلا بصعوبة، ولم يجدوا مبررا للخشونة التى عاملهم البدو بها.
يعدل سمعان طاقيته، ويمرر أصابعه فى شعره الأبيض:
ـ وقتها يا حفيد الشيخ لم يكن هناك طبيب واحد فى سيدى برانى كلها، ليس إلا الخالة طَيِّبة التى حملوا إليها الرضيع، فحرَّرَته من أثوابه المتسخة، ونادت على خادمها: يا ظالم، يا ولد يا ظالم، اجرِ إلى الغزالة، هاتها على بغلة زوجها، وأسرع بها الملعونة، أسرع يا مغضوب عليه، أسرع.
غسلتْك خالتك طيبة بالماء، جفَّفتْك ولفَّتك فى جلباب زاهٍ من جلابيبها وأنت لا تقوى حتى على البكاء. أدارت وجهها إلى الجدار، ولم تحادث أخوالك أو ترد على أسئلتهم، حتى جاءت الغزالة فناولتك لها، وحين أخرجت الغزالة ثديها الأسمر الصغير الذى اشتهر بحلمته الطويلة التقطتَها فى فمك بمجرد أن لمحتها.
أرسلتْ خالتك طيبة أثوابك لتُغسل، وسألتْ أخوالك وقد استدارت لهم عمن يقصدون، وأنت يا حفيد الشيخ تقبض بكلتا يديك على الثدى الذى استكان لك. قالوا:
ـ الرضيع يا خالة حفيد الشيخ ونحن أخواله.
قامت الخالة طيبة من مكانها وقالت:
ـ أصهار الشيخ؟ حلت البركات، حلت البركات، ولا تقولون؟! يا ظالم، أحضر اللبن، واذبح الجدى، وكيف لا تقولون؟!
حاولوا التنصل متعللين بالوقت، وبعزمهم على العودة فى نفس الليلة، لكن الخالة طَيِّبة لم تتركهم.
يمسح سمعان شعره بالطاقية، ثم يلقيها فى حجره، ويكمل:
ـ «تبَسّم الرضيع، وحرّك رجليه فى الهواء، فانحسر عنه الثوب وأفلت الحلمة، لكن ما إن أمسكت الغزالة ثديها لتدسه داخل الثوب حتى دفع يدها بكلتا يديه، وغيّب الحلمة داخل فمه وتابع المص مبتسماً».
يتناوم سمعان وهو يحكى، ألح عليه، فيقول:
ـ «عندما تذهب إلى خالتك طَيِّبة اسألها أن تكمل لك».
ألح عليه: «يا عم سمعان أنت تعرف أنها لا تملك إلا حكاية واحدة».
يتثاءب، ويضع كفه على ركبتى، ويكمل:
ـ «بعدما فرغوا من الطعام والشراب أعدّ لهم ظالم المطايا، وأرسلته الخالة طَيِّبة معهم ليدلّهم على حوش الشيخ، مشيرة إلى أكبر الأخوال بألا ينسى أجر المرضعة».
فيما بعد يا مريم سأعرف أن الخالة طَيِّبة هى أساس الحكاية، ولُبّ الحكاية، وستتعجب هى كثيرا عندما أخبرها أننى أذكرها جيدا فى ذلك اليوم، ستشيح بوجهها كطفلة:
ـ «يا غالى، وهل يدرك الرضيع؟!».
أظل أراوغها، فتصمت مصطنعة الغضب، ولا تنادينى بـ(يا غالى) التى أحبها.
لا تصدق أننى يمكن أن أذكرها وعمرى لم يتجاوز الأشهر مهما أقسمتُ لها، وحين أباغتها:
ـ «ألم تكونى حينها فى ثوبك الأزرق الفاتح؟ وكانت فى فمك سِنَّة ذهبية لم تسقط بعد، وكنت ترتدين عقدًا أسود فى رقبتك، وتربطين خيطًا أحمر على معصمك؟».
تخبط خدها بيدها بصوت أسمعه، وتشيح بذراعيها.
بعدها بأيام أتاها نبأ موت زوجها. انفردت به ناقته فى الخلاء ومزقته.
كان زوجها قاسى القلب، يعذبها بالكىّ، لكنها من يوم وفاته لا ترتدى إلا السواد.
تأبى تصديقى، فتهز كتفيها ورأسها:
ـ «لابد يا غالى أنك رأيت الثوب فى الصندوق، أو أنك سألت ظالم أو الغزالة عن كل هذا، الملعونين لا يكفان عن بصق الكلام».
أقسم لها إننى مازلت أتذكرها جيداً، فتضم رأسى بين ذقنها وصدرها الناشف.
كلما تطرق العم سمعان إلى هذه النقطة يخفض صوته، وتنطفئ عيناه:
ـ وصلوا بك يا حفيد مولانا إثر صلاة العشاء، وجدك الشيخ فى خلوته، كنتُ نصف نائم على بابه مطمئنا إلى أنه لن ينادينى، ومتهيئًا فربما يحتاجنى، سمعت صوت نحنحة ظالم يتقدم أربعة بغال عليها رجال لا أعرفهم. مريدو الشيخ كثيرون، يأتون فى حلكة الليل، أو فى قيظ النهار، والحوش مفتوح لكل قاصد. الرازق فى سمائه يعرف سعة بطن الضيف فيطعمه، ويعرف مراده فيجيبه، وابتسامة الشيخ تسع كرب المكروب، وحزن الثكالى، وشقاء من لم يملك، وشقاء من ملك، ويده مبسوطة ترقى وتمسّد: بأمر الله سر أيها القعيد، وأبصر أيها الأعمى، واحملى يا من تأخر عنك المعاد.
وصلوا بك إثر العشاء، والشيخ فى خلوته منذ أيام ثلاثة، فمن يستطيع أن يقطع الحبل الموصول؟
وصلوا بالرضيع وسمعان الفقير متمدد على باب شيخه، لم يلقوا السلام، وطلبوا الإذن، فقلت لهم: «حجرات الحوش رحبة، فيها الفراش، وفيها المصباح، ونعدّ الطعام لكم».
قالوا:
ـ «أكلنا. ولابد من عودتنا الليلة، نريد الشيخ».
الحقّ، لم أر فى عيونهم الطيبة، ثم من يستطيع أن يقطع الحبل الموصول؟
قلت: «الشيخ فى خلوته. عليكم إكرامنا بقبول ضيافتنا حتى يفتح بابه».
قلت: «الشيخ فى خلوته. عليكم إكرامنا بقبول ضيافتنا حتى يفتح بابه».
تلطّف أوسطهم، وبدا أنه ذو حيلة:
ـ «الأمر لا يحتمل، مات ابن الشيخ، النار أحرقته هو وزوجه، ولم يبق إلا الرضيع».
قلت: «إنا لله وإنا إليه راجعون».
قال الأكبر فى انفعال لم يفلح فى إخفائه:
ـ «نريد الشيخ حتى نعطيه الولد ونمضى إلى حالنا».
ظلوا يأتوننى من يمين ومن شمال، ومن يستطيع؟
لما استيأسوا منى تركوا لى الرضيع وانصرفوا، حملتُك وجلست بك على باب مولانا، لم أكن قد نظرت فى وجهك بعد، وأول ما كشفت عنك الغطاء انبثق من وجهك شعاع من نوره، ولج عينى فانتفضتُ، وضعتُك على عتبة باب الخلوة، ولم أدر بشىء إلا وسخونة الشمس تطرق جفنيّ توقظنى.
يضطجع سمعان، وينحسر جلبابه عن ساقه النحيفة، فيجذبه ليغطيها، ويكمل:
لما أفقتُ وجدتُك بين ذراعى الشيخ، يضع سبابته فى فمك وأنت تمصها، لم ير أحد مثل ما رأيت، كنتَ مشرقاً بالنور مثله، فظل نوركما يتداخل مبهرًا. سألنى جدك:
ـ «لمن الصغير الجائع؟».
رويت له ما حدث، فانسالت دموعه على وجهه، وانهمرت من بين شعرات لحيته إلى فمك الذى فتحته لها متعطشا.
قال: «تصطفى من تشاء لقربك، تاركاً المشتاق يعانى وجع الفرقة».
كنت تبتسم وتحرك رأسك كأنما تعى ما يقول، وأنت ترشف دموعه الممطرة فى فمك، قال: «مثل جدك يا صغير، مبعد ومتروك، يا لطول الشقاء».
وأرسلنى فى طلب المراضع.

ـ 3 ـ
عجيبة يا مريم كل تلك المسالك، ما الذى جعلك تقتحمين منطقتى الأثيرة بين حوش جدى والبحر؟ تتركين على رمال سيدى برانى آثارًا طويلة لعجلات سيارة بيضاء، ثم تتوقف السيارة بالقرب من الصخرة التى أجلس عليها، وتنزل منها فتاة، وأنا الذى سمعت عن النساء اللائى يركبن سيارات لم أرهن.
أهكذا؟ تقتحم إحداهن عزلتى كأنما تخطو فى البراح؟
نزلتْ ترتدى سروالا قصيرًا، وقميصًا ضيقًا، فتحتْ باب السيارة الخلفى، وأخرجتْ حاملا ولوحة بيضاء وضعَتْها عليه، وألوانًا.
كأنك لم ترينى، أو لم تكترثى بى وأنت تندمجين فى الرسم.

ـ 4 ـ
العم سمعان هو العم سمعان، ببشرته السمراء، وجلبابه ذى الكم الواسع جدًّا، يظل باسمًا طوال الوقت كأنما يفاخر بأسنانه الناصعة ويقول:
ـ «لا عيش فيها للمتجهم».
هو العم سمعان بأعوامه السبعين دون أن تنحنى منه عظمة، أو تشيب له شعرة.
ـ «كيف يا عم سمعان؟!».
ـ «البركة والكرامة يا حفيد الشيخ، منحك الله السر».
له فى خدمة جدى منها ثلاثون عامًا.
برغم تلعثمه وشروده ونسيانه إلا أنه ركن الحكاية، العم سمعان فى الحكاية هو الراوى، لا أحد يعرف عن جدى مثلما يعرف، يعرف تفاصيل كل حيواته المختلفة، تتجمع لديه الخيوط فيرويها متناثرة متشعبة، لكنه الوحيد الذى يعرف، وعلى من يريد سماع حكايات البداية أن يصبر، وأن ينتبه.
أقول له:
ـ «يا عم سمعان، احك لى حكاية العم سمعان».
يخجل ولا يحكى، يهرب منى إلى حكاياته الأخرى التى لا تنتهى، لكننى لا أتركه، أظل ألح عليه، فلا أراه يبخل إلا فى هذه الحكاية.
ينتظر حتى تظلم السماء، يأخذنى ونقف أمام البحر، يرفع عينيه باحثًا عن نجمة لا يعرفها غيره، ويحكى:
ـ سمعان الفقير أصله ليس من هنا. سيظل الرمل الأصفر يجهله، ولا يأنس به، وسيظل لماء البئر وماء العين طعمهما الغريب فى فمه، وسيظل كلما واجهته وجوه البدو الخشنة، بعيونهم المختبئة وشفاههم المبيضة سمة العطش الأزلى، يحن إلى هناك، حيث الأرض البُنيّة تعرف وقع خطوه.
سمعان أصله من أسوان، من عند آخر النهر، حيث الماء كالسكر، والأخضر يفرش حتى آخر العين، وحيث الفتيات السمراوات يغنين أغانى العرس بصوت له حلاوة صوت المؤذن، لكن الرزق الذى اتسع لكل باسط يد هناك، أتى عند الفقير وضاق.
قالوا: يا فقير اركب النهر، أو اركب السيارة، أو اركب ظهر القطار، وفى البلاد رزق لكل نازح، لم يعلموا وأنّى لهم أن رزق الفقير الذى لم يجده وسط الخير والزرع مخبوء له فى جدب الأرض القاسية.
سمعان قال لأمه: «يا أم، هنا فى كل يوم عرس يقام، الصغار يكبرون ويزفون، وسمعان قارب أن يشيخ ولا جنيه فى يده؛ ليقول: يا عم هذا مهر ابنتك، أو يا خال.. سمعان يطلب القرب».
الفقير لم يخرج إلا بجلبابه، ولم يترك إلا أمًّا عجوزًا صلبة، قالت:
ـ «لا تحمل همًّا».
وأخفت دمعتها، ربتت على ظهر المرتحل بيدٍ قوية، وقالت:
ـ «يا صاحب الدنيا، ارزق الفقير نور الطريق».
إذا دخل فى الحكاية يا مريم لا يرد علىّ إذا قاطعته، يشير بيده، أو يربت على ركبتى بحزم أن اصمت. فأصمت ليحكى:
ـ «ظلت أكف البلاد تتقاذفنى، والرزق يضيق يضيق حتى كاد أن يقتل حلم سمعان الفقير بابنة سمراء صغيرة، لها شعر أسود طويل، وعينان سوداوان، وبشرة ناعمة كورقة الحناء، يجلسها على رجله داخل قارب صغير لا يحب شط النهر، ولا يهتز بالصغيرة حتى لا تخاف».
ظلمت نفسك يا سمعان بالحلم. تحلم بالزواج وأنت الجائع؟!
لكن هل كان أحد يسوقنى من طوق الجلباب يا حفيد الشيخ إلا صاحب الطريق؟ هل كان أحد سواه يقول ادفعيه يا أكف البلاد بضيق الرزق حتى يصل؟
استغفر يا سمعان لجهلك أيام كنت تعترض، وأنت الجاهل، على خواء بطنك، اعتذر يا ساذج عن سوء الظن.
خبّأتَ حلمك حتى لا يُعلم به، فيكيد لك من لا تعلم شر شيطانه كيداً، وقلتَ يا أكف البلاد كل الحلم ألا أبيت جائعاً.
وخشيتَ يا سمعان أن تظل هكذا تعد الشمس الطالعة، وتحسب الشمس الغاربة، ولا أسرع من الزمن يا حفيد مولانا، وكل يوم عرس يقام، خشيتَ أن ترجع لتجد كل البنات قد تزوجن، ولا تجد واحدة تُغنى أغنية عرسك، وتقول لك وأنت خارج من البيت والبنت على ذراعك:
ـ لا تتأخرا، وخل بالك حتى لا تخاف البنت من اهتزاز القارب.
اشكر جوعك يا سمعان، واشكر فقرك، وصفعات أكف البلاد، وابن الحلال الذى حكيت له شقاءك فحملك إلى هنا على ظهر سيارته.
نزلتُ فأطعمونى، وسمعت بالشيخ على كل لسان، سألت عنه، ثم قلت له:
ـ أريد أن أنهل من بركتك.
وقلت فى نفسى:
ـ وأن أجد المأكل والمأوى.
رحب بى جدك، وجهز لى بنفسه مكان العيش، وظللت مقيمًا معه.
بعد حين قال لى جدك:
ـ وضعتَ قدمك يا سمعان على عتبة الطريق، منتصف الطريق أن تنزع من صدرك صورة البنت السمراء الجالسة على رجلك فى قارب لا يحب شط النهر، ولا يهتز حتى لا تخاف الصغيرة».
ـ «ولابد يا عم سمعان أنك نزعت الحلم من صدرك منذ زمن؟».
يشيح بوجهه إلى البعيد، وتهب نسمة لا أحسها، لكنى أراها تعبث بطرف ثوبه فيرفرف، يقول:
ـ «زمن طويل مر، ولم أصل إلى منتصف الطريق».






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة