◄◄ من أخطر أسباب التفرق والتهارج والتنازع الحاصل بين أبناء الجماعات الإسلامية - حتى فى ظل هذا الواقع المؤلم الذى تعيشه الأمة الآن - غياب التأصيل العلمى لقضية الخلاف
◄◄ إن أدلة الشرع ذمّت التفرق وأكدت على ضرورة أن تكون جماعة المسلمين واحدة بلا تحزب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد. فيسعدنى كثيرا أن أكون ضيفا على جريدة «اليوم السابع» التى استطاعت وسط هذا الزخم الإعلامى الهائل أن تَخُطَّ لِنفْسِها ولموقعها الإلكترونى مكانًا. وأود أن أعبر منذ البداية عن شكرى العميق لِفَريق عملها. وعن تقديرى لموقفهم الأخير واستجابتهم لعدم نشر الرواية المذكورة.. والله أسألُ أن يزيدهم توفيقًا ورشادًا وإخلاصًا. إنه ولىُّ ذلك ومولاه.
ما العلاقة بين النص القدرى والنص الشرعى فى مسألة الخلاف؟
- لو تتبعنا آياتِ القرآن الكريم وأحاديثَ النبى صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضى الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. لوجدناها تدل على أن الخلاف شر.
قال تعالى: «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم» آل عمران - 105.
وقال تعالى: «ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربُك» هود 118-119.
وقال تعالى: «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم فى شىء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يعملون» الأنعام/159.
وقال تعالى: «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين» الأنفال/46.
وقال تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا» آل عمران.
وفى صحيح البخارى من حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « خرجتُ لأخبركم بِلَيْلَةِ القَدْر فَتَلاَحَى رَجُلان فَرُفِعَتْ ولعلَّ ذلك أن يكونَ خيرًا لكم.. ».
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه وفيه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « إنما أهلك من كان قبلكم كثرةَ سؤالهم واختلافُهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه».
والأحاديث فى الباب كثيرة.. أما أقوال السلف فأكثر من أن نستقصيها هنا، ومنها قول عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: الخلاف شر.
وقال الخطابىُّ - رحمه الله - «فأما الافتراق فى الآراء والأديان، فإنه محظورُ، فى العقول مَحَرَّمُ فى قضايا الأصول لأنه داعيةُ الضلال، وسببُ التعطيل والإهمال، ولو تُرك الناسُ مُتَفرِّقين لتفرَّقت الآراءُ والنِّحلُ ولكثرت الأديانُ والمِلَلُ، ولم تكن فائدةُ فى بِعْثَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذى عابه الله عز وجل من التفرق فى كتابه وذمَّه فى الآى التى تقدم ذِكرُهَا».
وقال الشاطبى - رحمه الله - فى قوله تعالى: «ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك» إن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مُباينون لأهل الرحمة، فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف ومرحومين.
فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف، وإلا كان قِسْمُ الشىء قسيمًا له ولم يَستقمْ معنى الاستثناء.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول فيها: الذين رحمهم الله لم يختلفوا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيها أيضًا فأخبر تعالى أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً.. وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة فمن خَالَفَهم فى شىء فاته من الرحمة بقدر ذلك.
هذا ما عليه المحققون من أهل السنة. ولا تعارض بين هذا التأصيل بهذا الفهم وبين ما سألتَ عنه من آيات تبين أن الاختلاف أمر قدرى، ومن ثم فواجب أن نسلم به وألا نسعى لتغييره لأنه إرادة الله ولا حيلة البتة فى تغيير إرادته جل وعلا!
هذا يَلْتَبِسُ على من لا يُفَرِّقُ بين الإرادة الكونية القدرية وبين الإرادة الشرعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - «الإرادة الكونية القدرية هى الإرادة الشاملة لجميع الموجودات التى يُقال فيها ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. كما فى قوله تعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد فى السماء» الأنعام/125.
وقوله تعالى: «ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعلُ ما يريد» سورة البقرة/253.
هذه الإرادة.. إرادة شاملة لا يخرج عنها أحد من الكائنات فكل الحوادث الكونية داخلة فى مُراد الله ومشيئته هذه.
أما الإرادة الشرعية الدينية فهى المرادة فى قول الله تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» البقرة/185.
وفى قوله تعالى: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج» المائدة/6.
وهذه الإرادة الشرعية الدينية هى الإرادة المتضمنة للمحبة والرضا. فهذا النوع من الإرادة لا يستلزم وقوع المراد إلا إذا تعلق به النوع الآخر من الإرادة وهى الإرادة الكونية. فالإرادة الشرعية تدل دلالة واضحة على أنه سبحانه وتعالى لا يحب الذنوب والمعاصى والضلال والكفر ولا يأمر بها ولا يرضاها وإن كان شاءها خلقًا وتقديرًا وإيجادًا».
والخلاف كذلك مما قضاه الله وأراده إرادة كونيةً قدريةً أو شاءه خَلْقَاً وتَقْديرًا ولكنه جل وعلا لا يُحِبُّه ولا يرضاه، قال أبومحمد بنُ حَزْم - رحمه الله - وقد نص - تعالى - على أن الاختلاف ليس من عنده ومعنى ذلك أنه - تعالى - لم يَرْضَ به. وإنما أراده تعالى إرادةً كونية. كما أراد كوْنه الكفرِ وسائر المعاصى.
ومن ثم فالخلاف المذموم على الدوام هو الخلاف فى أصل الملة، أما الخلاف فى مسائل الاجتهاد التى لا نص فيها يقطع العذر فإنه لا يغير بشرط أن يكون الاجتهاد فى هذه المسائل صادرًا عن أهله المتحققين بالعلم الشرعى من العلماء. إذ لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف!
قال الشوكانى - رحمه الله - «وهذا النَّهْىُ عن التفرق والاختلاف يختصَّ بالمسائل الأصولية وأما المسائلُ الفُروعيَّةُ الاجْتهاديَّةُ فالاختلاف فيها جائز ومازال الصحابة ممن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين فى أحكام الحوادث».
وقال الشاطبى - رحمه الله - إنا نقطع بأن الخلاف فى مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له مَحْضُ الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضى الله عنهم بحيث لا يصح إدخالهم فى قسم المختلفين بوجه. فلو كان المخالف منهم فى بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف ولو بوجه ما، لم يصح إطلاق القول فى حقه: إنه من أهل الرحمة وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
وقال أيضًا - رحمه الله - « ثبت أنه لا اختلاف فى أصل الشريعة ولا هى مَوْضُوعَة على وجُودِ الخلافِ فيها أَصْلاً يُرْجَعُ إليه مَقْصُودًا من الشَّارع الحكيم. بل ذلك الخلافُ راجع إلى أنظار المُكَلّفِين».
ولله دَرّ القائل:
وليس كلُ خلافِ جاء مُعْتَبرًا إلا خلافًا له حَظّ من النَّظَرِ.
وعليه فالحديث المشتهر على الألسنة «خلاف أمتى رحمة» لا يصح سندا ولا متنًا. رواه البيهقى فى المدخل «152» بسندٍ ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا.
وهذا الإسناد فيه ثلاث عِلَل:
الأولى: الانقطاع بين الضحَّاك وابن عباس.
الثانية: سُليمان بنُ أبى كريمة ضعفه أبوحاتم الرازى.
الثالثة: جُويْبِر. قال النسائى: متروك الحديث. وقال الدَّارقطنى يروى عن الضحاك أشياء موضوعة وهذا الحديث من رواياته عنه.
وبالجملة فلا يوجد أبدًا دليل من القرآن والسنة وأقوال السلف ومن تبعهم بإحسان يدلُ على أن الخلافَ رحمة. بل هو شرُ ومذمومُ فى الشريعة. فالواجبُ محاولةُ التخلصِ منه ما أمكن لأنه من أسباب ضعف الأمة كما قال تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» وأقول: إذا كان اختلافُ الأمة رحمة فهل يكون اجتماعُها عذابًا؟!
سامحنى لقد أطلت النَفَس فى الجواب على هذا السؤال لأهميته لاسيما ونحن نرى هذا التنازع والخلاف والتهارج والتقاذف بل واتهام النيَّات بين فصائل العمل الإسلامى فى الوقت الذى أحيط فيه بالأمة من كل ناحية. وراح الكثيرون بجهل أو بسوء فهم للأدلة ومناطاتها يعكفون على هذه القضية توسيعًا وتمييعًا وتخليطًا بل وتقنيطًا بدعوى أن هذا أمر قدرى لا يحل لنا أن نسعى لتغييره أو حتى تقليله!
ما دور الحوار فى إقامة هذه الوحدة؟
- باختصار شديد.. إن أدلة الشرع كلها ذَمَّت التفرق لأنه قرين الابتداع والهلاك والضعف. والذى يقتضيه الشرع أن تكون جماعة المسلمين واحدة بلا تَحَزُّبٍ بغيضٍ أعمى يَصُمَّ الآذان عن سماع لاحق. ويعمى الأبصارَ عن رؤية الدليل ويُبعد أصحابه عن سواء السبيل! وأنا أرى أن ما يُعرف الآن بالحركات الإسلامية سببُ فى توسيع الفُرقة: لأن الاختلافَ الحاصل بينهما ليس اختلافَ تنوع بل اختلاف تضاد!
فكل جماعة تدَّعى لنفسها أنها وحدها «جماعة المسلمين» وهى على الحق وما عداها من الجماعات فعلى الباطل. وكل ما تؤصله وتقوله فهو الصحيح، وإن خالف الدليل، وكل ما تفعله فهو الصواب وإن خالف الواقع أو الواجبَ فى الواقع! أما شيوخ الجماعة فهم لا يقبلون فيهم البتة نقدًا ولو كان مهذبًا بناءً. ولا يقبلون لقولهم وفتاواهم مراجعة. فهم الأوسع علمًا والأنصح حُجَّة والأقوى دليلاً حتى إن كان العلمُ لا يشبع والدليلُ لا يُقنع!
ثم يُعْقَدُ الولاء والبراء بعد ذلك على الانتماء لهذه الجماعات أو الحركات! واقعُ لا ينكره الآن منصف منشغلُ، بأمر الدعوة وهَمِّ الأمة.
فمقتضى الشرع أن تكون جماعتُنا جميعًا هى «جماعة المسلمين» وأن يكون إمامنا جميعًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون منهجنا جميعًا القرآن والسنة وما اجتمعت عليه الأُمَّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - «ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالى ويعادى عليها غير النبى صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالى ويعادى عليه، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة. بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة. يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النِسْبَة ويعادون». فواجبُ على كل مسلم ينتمى لأى من هذه الحركات الإسلامية أن يحقق تقوى الله عزوجل وأن ينبذ هذا التعصب، وأن يدور مع الحق بدليله حيث كان، فإن الحق لا يُعرف بالرجال ولكنَّ الرجال يعرفون بالحق.
أما إن كان سؤالك - أخى الكريم - عن واقع نَحْيَاه فهذا أمر آخر. فما لا يدرك كله لا يترك جله. لأن القول بدمج وتوحيد هذه الجماعات أو الحركات على منهج واحد طمع فى غيرِ مطمع، وأملُّ تحول دونه حوائل وموانع شتى!
وهنا لابد من الحوار كخطوة عملية على طريق التقارب الذى أراه خطوةً لتصحيح مناهج هذه الحركات وضبطها بالضوابط الشرعية، ومن ثم يُصبحُ التعددُ والاختلافُ بينها اختلافَ تنوع لا اختلاف تضاد وتناقض وتعارض وهدم. بشرط أن يكون الحوار فيما بينها متسمًا بالأدب والفقه وتحقيق التراحم والأخوة فى الله.. وإحسان الظن. وتجنب البغى والعنف. واسمح لى أن أكرر: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف!
قال تعالى: «ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرُ بما تعملون» المائدة/8.
كل عمل نسعى لتحقيقه.. فهل لديكم خطة واضحة؟
- هذا سؤال عملى فى غاية الأهمية، والمنهج له ثلاثة جوانب لا تتجزأ، ولا ينفصل منها جانب عن الآخر.. جانب إيمانى، وجانب علمى، وجانب عملى.
أولاً: الجانب الإيمانى
أؤكد منذ البداية أن أى جهود تبذل فى هذا المجال ستكون كالحرث فى الماء، أو كالأمطار التى تضيع سدى بين الرمال، إن لم تسلم القلوب وتصفو وتخلص النية، وتطهر السريرة والطوية.
فالحاجة ماسة فى ظل هذا الواقع النازف إلى قلوب متجردة لله تعالى لا يعمل أصحابها من أجل زعامة أو جماعة أو هدى ولا يعنيهم على لسان من ستقال كلمة الحق مادامت كلمة الحق ستقال، ولا يزعجهم أبداً أين مكانهم على طريق الدعوة، هل هم فى الصدارة بين القادة أم فى المؤخرة بين صفوف الجند، ماداموا على الطريق يعملون لله ويبتغون رضاه، ومن ثم فهم يصبرون على الأذى عندما يجزع الآخرون، ويحلمون عندما يجهل الآخرون، ويغفرون حينما يخطأ فى حقهم الآخرون، فهم عباد لله! لا للذات، ولا لمصلحة الدعوة، ولا للهوى ولا لجماعة، قال تعالى: «ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن» المؤمنون/71.
وقال سبحانه: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين» البينة/5، وفى صحيح البخارى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه وفيه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة وإن كان فى الساقة كان فى الساقة وإن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع».
ويزداد الأمر خطراً إذا علمنا أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أهل الرياء!
فأى عمل بغير نية هباء، وبدون إخلاص رياء، وفى مثله قال الله تعالى: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» الفرقان/ 23
نعم.. محال أن نستعلى على الشهوات والشبهات، والمطامع والمطامح، والمخاوف والهواجس، إلا بقلوب سليمة، ولا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، ومن غفلة تناقض الذكر، ومن شهوة تناقض الأمر، ومن هوى يناقض الإخلاص، ومن هنا أؤكد وأؤكد أن الخطوة العملية الأولى على طريق التقارب والتعاون - وإن طال - هى تصحيح العقيدة والمنهج حتى لا ننجرف عن الإسلام وسيلة ونحن نتجه إليه غاية!
فمحال أن يتم التقارب على شتات عقدى متناقض على غير حق واتباع وهدى.
فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، تنظم كل مناحى الحياة، ولا يقبل الله من قوم أبداً شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم.
فتزكية الجانب الإيمانى عند أفراد الحركات الإسلامية خطوة عملية أولى على الطريق..
وهذه البداية ليست نافلة ولا تطوعا ولا اختيارا، ولكنها واجبة وبها بدأ النبى صلى الله عليه وسلم - بل كل نبى ورسول - وبهذا تمكن النبى صلى الله عليه وسلم أن يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر وسط صحراء تموج بالكفر والجهل موجا فى فترة لا تساوى فى حساب الزمن شيئا على الإطلاق.. وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم استطاع أن يطبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج الإسلامى التربوى ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، بل طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمداد من الإيمان والتُقى والهدى والنور!
ثانياً: الجانب العلمى
من أخطر أسباب التفرق والتهارج والتنازع الحاصل بين أبناء الجماعات الإسلامية - حتى فى ظل هذا الواقع المؤلم الذى تعيشه الأمة الآن! - غياب التأصيل العلمى لقضية الخلاف، وجرأة كثير من أفرادها بالخوض فى باب الجرح والتعديل للأفراد والمناهج والجامعات والحكم المتسرع دون فهم للأدلة ومراتبها وبدون تحقيق للمناطات الخاصة والعامة التى لابد منها للربط ربطا صحيحا بين دلالات النصوص القرآنية والنبوية، وحركة الواقع المتجددة المتغيرة!
ومن ثم فينبغى مراعاة هذه الأصول.
الأصل الأول: معرفة أنواع الخلاف.
أ - خلاف فى أصل الملة، وهو المذموم على الدوام وأهله ليسوا داخلين فى رحمة الله عز وجل المذكورة فى قوله تعالى: «ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك» هود/118.
قال أبومحمد ابن حزم: فاستثنى تبارك وتعالى من - رحم - من جملة المختلفين وأخرج المرحومين من جملة المختلفين.
وقال مالك: الذين رحمهم الله لم يختلفوا.
ب - الخلاف فى مسائل الاجتهاد الذى يستدل فيه كل فريق بدليل وهو أكثر من ينضبط وهذا الذى يسميه العلماء بـ«اختلاف التنوع» الذى لا تدافع فيه ولا مضادة، كالاختلاف فى صفة الأذان والإقامة وأدعية الاستفتاح فى الصلاة وصلاة الخوف والقراءات والتشهدات وأنواع الحج والقنوات.. إلخ.
وهذا لا إشكال فيه فلقد وقع ممن حصل لهم محض الرحمة وهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت سابقاً قول الشاطبى - رحمه الله - «إنا نقطع بأن الخلاف فى مسائل الاجتهاد واقع» ممن حصل لهم محض الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضى الله عنهم بحيث لا يصح إدخالهم فى قسم المختلفين بوجه.
الأصل الثانى: معرفة أسباب الخلاف
وهذا أصل منهم أختصره فى نقاط سريعة:
1 - طبيعة البشر: فالاختلاف بين الناس فى طبائعهم وأشكالهم وطرق تفكيرهم وغير ذلك أمر فطرى قال تعالى: «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين» الروم/22.
وهذا الاختلاف سبب فى تفاوتهم فى الفهم والاستدلال.
2 - عدم بلوغ الدليل، فمن اعتقد أن كل الأدلة وكل الأحاديث الصحيحة قد بلغت كل الأئمة والعلماء فقد أخطأ خطأ فاحشاً، وها هو عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجمع من الصحابة يختلفون ويغيب عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الطاعون حتى جاء عبدالرحمن بن عوف فأخبرهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم بالطاعون فى أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه» والأمثلة فى هذا الباب كثيرة جداً مع كبار الصحابة كابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبى موسى الأشعرى وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين.
3 - النسيان أمر يعترى كل البشر وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون» ونسيان عمر بن الخطاب لحديث التيمم الذى ذكره به عمار حادثة معروفة وغيرها كثير!
4 - عدم الوقوف على نسخ الدليل، ولا يتسع الوقت للتفصيل وذكر الأمثلة.
5 - الاختلاف فى فهم الدليل وهذا باب واسع جداً وكلنا يعرفه.
حديث النبى صلى الله عليه وسلم «لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة».
الأصل الثالث: تحقيق أدب الخلاف
وهذا الأصل هو حجر الزاوية إن حققناه وحولناه فى ساحة العمل الإسلامى إلى واقع عملى فالتنظير السالب لا يغير من الواقع شيئاً، وردت أن لو فصلت فيه القول تفصيلا، فما أحوج كل العاملين اليه علماً وعملاً لكن الوقت طاردنا!
لكنى أوجزه فى نقاط رئيسية محددة.
1 - الإخلاص والتجرد من الأهواء.
2 - نبذ التعصب البغيض للأشخاص والجامعات وتقديم الدليل من كتاب الله والسنة والإجماع.
3 - إحسان الظن بالآخرين وعدم التماس العيب للبراء.
4 - احترام رأى المخالف وعدم الطعن والتجريح مادام الخلاف معتبراً.
5 - عدم الهجر والقطيعة عند الخلاف فلو كان كلما اختلف مسلمان فى شىء من مسائل الأحكام والاجتهاد تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة!!
6 - عدم تقديم الآراء على الأدلة مهما كان قدر أصحابها.
7 - عدم متابعة من خالف الدليل الشرعى الواضح مهما كانت منزلته ومكانته.
8 - ضبط قضية الاجتهاد بحيث يصير الاجتهاد موكولاً فقط إلى أهله من العلماء.
9 - التثبت من الأخبار، وعدم الجرى وراء الشائعات وتطيرها بغير تقوى ولا ورع.
10 - ترك الفتوى لأهلها من المتحققين بالعلم الشرعى.
11 - مشاورة العلماء الربانيين لاسيما فى وقت النوازل والفتن.
12 - طرح أى مسألة علمية أو عملية للنقاش بين أهل العلم بالحكمة والرحمة التى هى أحسن.
13 - تحقيق العدل والانصاف.
وأخيراً وقد تعمدت أن أجعلها الكلمة الأخيرة لتبقى فى القلوب والعقول لجلالها وخطرها، وهى تقديم فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
قال تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» النساء.
وفى الصحيحين من حديث عمران بن حصين وغيره أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكما أنه لم يكن فى القرون أكمل من قرن الصحابة فليس فى الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وأثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل فى الفتنة..».
ثالثاً: الجانب العملى
1 - وهو باختصار تحقيق الجانب العلمى، فكل علم لا يفيد عملاً ليس فى الشرع البتة ما يدل على استحسانه ولا شك أن الأقوال إن خالفت الأعمال بذرت بذور النفاق فى القلوب، قال تعالى« يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» الصف/2-3.
2 - أن يلزم قادة كل فصيل أو حركة أو جماعة أفراد وأبناء الحركة بالتزام هذا المنهج القرآنى والنبوى وعدم السماح لأى أحد يطرح مسألة من مسائل الخلاف إلا إذا كان أهلاً لذلك، حتى لا تتسع هوه التفرق والتنازع.
3 - التقاء القادة والموجهين والعلماء المسؤولين فى كل هذه الحركات للتدارس والنقاش وطرح جميع المسائل فى بوتقة فقه الخلاف وتظليلها بأدب الخلاف، للخروج بحكم شرعى منضبط لكل مسألة أو نازلة وإن لم نتمكن من هذا على مستوى الأمة فعلى الأقل على مستوى الدولة، أو حتى على مستوى المدينة أو حتى القرية فمجرد اللقاء ذاته يقرب كثيراً ويذيب جبالاً متراكمة من الجليد، ويصحح كثيراً من الأخطاء ويقطع كثيراً من التهم ويقضى على كثير من الشائعات والأوهام.
4 - التعاون فى بعض الأنشطة التربوية والدعوية التى لا تصطدم مع المنهج الشرعى وأراها خطوة لتصحيح بعض المناهج لبعض الجامعات.
5 - لا مانع من أن يتفق العقلاء الحكماء فى كل هذه الحركات على اختيار مجموعة من أهل العلم والفضل لتكون بمثابة مجلس للشورى لفض النزاعات والخصومات والتقريب بين الإخوة المتنازعين، وإلزامهم بالإذعان للحق بدليله من القرآن والسنة.
6 - لا ينبغى لأحد أن يتغافل عن واقع الأمة الأليم وأن يغلب مصلحة الأمة على مصلحة الجماعة، فضلا عن المصالح الشخصية «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» محمد/38. ولئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج أسأل الله أن يُقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز المسلمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشيخ محمد حسان يكتب لـ«اليوم السابع»: إذا كان اختلاف العلماء «رحمة».. فهل يكون اجتماعهم على كلمة واحدة عذاباً؟!
الجمعة، 20 أغسطس 2010 01:31 ص
الشيخ محمد حسان
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة