العقد الاجتماعى، كما بينت فى مقالى السابق، لا يكون إلا بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، من هنا يلزم تنظيم الحكم كى يتماشى النظام العام للدولة مع عصر حديث ومتطور مر علينا دون أن نتعلم أو نستفيد منه شيئًا على عكس دول إفريقية وآسيوية وأخرى فى أمريكا اللاتينية والجنوبية بدأ بعضها طريقه للتنمية معنا والبعض منها، مثل الأرجنتين وشيلى، يحاول بالحوار الوطنى وبكل جهد ممكن التخلص من بقايا دكتاتوريات عسكرية ربضت على قلب الشعب عقود، ليقطعوا شوطًا لا بأس به على طريق الديمقراطية، وليسبقونا ليس فقط ديمقراطيًا وأيضًا فى مجالات ندعى نحن لها القداسة مثل كرة القدم واستعمال المحمول.
وبناء على ذلك فالنظام السياسى له أن يكون "فرنسيًا" أو "أمريكيًا" أو حتى "روسى" - أو ما شئتم من النظم التى يقف على قمتها رئيس له سلطات مقننة بالدستور وبالقانون العام، ليس دستورًا استثنائيًا ولا قوانين عرفية يصنعها زبانية النظام على مقياس "الحبيب الأوحد"، على أن يقف إلى جانبه برلمان مماثل له فى القوة (مجلس لنواب الشعب) يمارس الرقابة والموازنة كما ينصح بعض العقلاء. فالرئيس ذو السلطات يجب أن يكون منتخبًا على أساس برنامج له - يكون حزبيًا أو مستقلاً - ليصبح بعد انتخابه لا حزبيًا بل مستقلاً أى رئيسًا لمن انتخبوه وأعطوه صوتهم الحر، ولمن لم ينتخبوه وفضلوا عليه مرشحًا آخرًا، وإلى جانبه يقف نظام برلمانى قوى مبنى على التعددية الحزبية وليس على الاحتكارية الحزبية التى نعاصرها الآن، على أن يتم كل هذا بإقرار كل المشاركين فى العملية السياسية بمبدأ "تداول السلطة"، كشرط أساسى للعمل السياسى، ومن ثم يكون لكل مشارك فى الانتخابات برنامجًا لخدمة تداول السلطة لا احتكارها، وتقسيم الثروات لا إهدارها، واحترام المواطن لا كرعية تابعة مهملة بل كشريك ومرجع لكل السلطات.
ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يتم كل هذا إلا بتقسيم وفصل السلطة إلى تقسيماتها المعروفة، القضائية والتشريعية والتنفيذية، على ألا تتغلب إحداها على الأُخرى كما هو مطبق فى زمن أمراض العصر العربى الحديث، وعلى ألا يخرج ممثلو الشعب المنتخبون فى مظاهرات البيعة المعروفة لفداء "الرئيس المؤمن"، بطل الحرب والسلام، بالروح والدم! ولكن ليعرف ممثلو المحكوم بالواجب الملقى عليهم طبقًا لمبدأ العقد الاجتماعى المبروم بينهما، والذى لا يحيدون عنه، وأن للمحكوم حقوقًا لا مكارم وواجبات لا مظالم، وأن الرقابة على الحاكم والحد من سلطاته طبقا لهذا العقد لا لتملقه، ولا لتمديده، ولا لتوريثه، واجب وليس مطلبًا أن العقد الاجتماعى لا ينفى حقًا للجماعة ولا يدَّعِى باطلاً للزعيم المزمن!
إن السلطة القضائية المستقلة عن التشريعية والتنفيذية هى عصب النظام الديمقراطى، كما أن قانونًا لتنظيم القضاء يقوم قطاعهم بنفسه بإصداره وبالإشراف عليه وبحمايته بعيدًا عن أخطبوط السلطة التنفيذية، وبالتعاون مع السلطة التشريعية المنتخبة على العقد والتعاقد، هو الحل لمأساة السلطة القضائية منذ اغتيال السنهورى وتولى العسكر للسلطة حتى تاريخه!
والسلطة التنفيذية مرة أخرى - المحددة بإطار زمنى غير مزمن - هى أداة لتنفيذ العقد الاجتماعى لا فرض عقد من اختراعها ولا قوانين طوارئ لا تعرفها الإنسانية إلا فى الحالات الاستثنائية، بينما شعوب العرب تأن تحت الاستثنائى منذ عرفت الزعامة المزمنة. وبتنفيذ العقد تضع السلطة نفسها فى خدمة الشعب بكونها مكملة للسلطتين التشريعية والقضائية - وهما الممثلتان بحق لا بباطل للمواطن – ولتكن التنفيذية مستقلة عنهما فالذى لا يكون من طرف التشريعى أو القضائى وفى صالح المواطن يُرَد إليهما مرة أخرى على ألا يثبت أو يدعم أو ينفذ إلا بما يتوافق مع صالحه العام. فلا مساومة أو محاباة فى الحقوق كما فى الواجبات.
إن التنفيذ كما عرَّفُه هارون الرشيد هو "تكليف" من المحكوم للحاكم ومن الحاكم إلى مساعديه الشرفاء، حيث الكفاءة لا الثقة هى معيار الاختيار، والعلم لا الوساطة. وشفافية السلطة التنفيذية لا تكون إلا بقانون "من أين لك هذا؟" يطبق على السلطة التنفيذية قبل وبعد تولى مناصبها مع رقابة التشريعية والقضائية عليها، مع العلم أنها ليست سيفًا مسلطًا على المنفذ، بل سوف تكون مصباحًا منيرًا لطريق الحقوق والواجبات، حيث تكون علاقة مبنية على الاحترام للمشرِّع والقاضى وأيضًا للمحكوم والحاكم معًا، مع العلم مرة أخرى بأن المحكوم هو فى الأصل كل السلطات من منفذ ومشرِّع إلى قاضٍ بإيجابية عقلانية، وهذا هو لب النظام المقصود.
وأخيرًا أين نحن من المواطن الإيجابى العقلانى المتفاعل، لا السلبى المتواكل والصابر غصبًا على بلواه؟. إن هذا الإنسان هو نتاج حضانة ومدرسة وأسرة وبيت وجامعة ومسجد وكنيسة، فإن لم تكن هذه فليكن المصنع والأرض والزراعة والمكتب والمكتبة، وهى كلها معامل نفيسة لقيمة البشر - الفرد والجماعة والمجتمع الكبير.
إن قيمة البشر، وهى التى أهدرت كالأرض من خلال الأنظمة المزمنة، هى جوهر كل نظام وأساس كل عقد، فلنعمل جميعًا على إحيائها ففى هذا الإحياء حياة يا أولى الألباب.
* أستاذ علوم سياسية بجامعة ونسبروك بالنمسا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة