مازلت أذكر عم عوض الكهربائى، ذلك الرجل المسيحى ذو الابتسامة العريضة الذى كان يشاركنا صيام رمضان، فلما سألته ذات مرة عن ذلك ببراءة الطفولة التى تعلم أن رمضان هو شهر الصيام للمسلمين فقط فأجابنى أن المسيحيين عندهم صيام كما هو الحال عندنا نحن المسلمين، وظلت تلك المحادثة محفورة فى ذاكرتى إلى الوقت الذى طالعت فيه آيات الصيام فى سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فأدركت ساعتها أن هذه الفريضة ليست بدعا بحق أمة الإسلام، ولكنها فرضت على الأمم من قبلنا لتحقيق قيمة عليا ألا وهى التقوى.
ولكنه سبحانه لم يخبرنا عن الكيفية التى كان عليها صيام هذه الأمم غير أننا نسمع عن الصوم الكبير لإخواننا المسيحيين وغيره من أيام الصوم عندهم ولكنه بكيفية غير التى عليها نحن المسلمون، وصيام اليهود يوم عاشوراء احتفالا بنجاة سيدنا موسى عليه السلام والذى دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى صيامه قائلا "نحن أولى بموسى منهم" وصيام سيدنا يوسف عليه السلام وقد كان على خزائن الأرض فلما سئل عن ذلك قال أخشى أن أشبع يوما فأنسى الجائع وخير الصوم صيام سيدنا داود الذى كان يصوم يوما ويفطر يوما، على الرغم من كونه ملكا رسولا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصيام لغة هو الإمساك والكف، وشرعاً إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص فى زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة، لكن الصوم فى شريعة الإسلام يعنى الصوم عن شهوتى البطن والفرج من الفجر وحتى الغروب. ومبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فقد كان الصيام، ذلك الركن التعبدى، موجوداً فى الديانات السابقة على الإسلام، لكنه كان إما إمساكاً مطلقاً عن الطعام وإما إمساكا عن ألوان معينة من الطعام كصيام إخواننا المسيحيين، فالصيام إذن هو منهج لتربية الإنسان فى الأديان.
ولكن صوما من نوع خاص سطرته آيات القرآن بحق السيدة مريم عليها السلام ألا وهو الصيام عن الكلام ( إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً) فعلى الرغم من أن الصيام عن الكلام كان من الطقوس التعبدية فى الأمم السالفة وضربا من ضروب العبادة فى بعض الشرائع السابقة، حيث اقتبسه العرب فى الجاهلية ولكنه نسخ فى شريعة الإسلام، ولذلك نجد بعض المسيحيين يعتبرون الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحماً على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة ( دقيقة حداد ).
إلا أن صيام مريم عن الكلام كان لسبب آخر وأمر مغاير ذلك، إن مريم القديسة التى نذرتها أمها لله، مريم التى نشأت فى بيت الله وفى كفالة سيدنا زكريا عليه السلام مريم التى كان يأتيها رزقها من عند الله فى غير موعده وأوانه، مريم ذات الأصل الأصيل والنسب النسيب بنت عمران من أسرة مصطفاة ومختارة من قبل رب العالمين، مريم المعروفة بطهارتها وعفتها ونقائها، كيف تأتى قومها برضيع لها تحمله بين يديها، إنه لموقف لا يملك فيه المرء إلا الصمت وهو البرئ الذى يعلم أن الألسنة سوف تتناوشه من كل جانب وأنه لن يكون بمأمن من النظرات والكلمات بل ربما امتد الإيذاء إلى ما هو أكثر من ذلك.
ذلك سر الخوف الذى أحاط بمريم عندما أخبرت بوهبة الله لها سيدنا عيسى عليه السلام فكيف تنجو من تهمة ليس لها فيها نصيب فتمنت الموت من ساعتها فأى كلمات يمكن أن يعبر مكنونها عن الحالة التى فيها مريم، وأى كلمات يمكن أن تدافع بها مريم عن نفسها ولو كانت صادقة، فليس أمامها إلا الإمساك عن الكلام مأمورة بذلك من ربها، ولكن الله ما كان ليذر مريم بلا مدافع لقد أوجد لها من ينافح عنها بحجة داحضة دامغة لقد انطق رضيعها فى أية باهرة مبهرة، ليعلن عن نبوته وعبوديته لله ونسبته إلى أمه الطاهرة البتول النقية سيدة نساء العالمين.
ولقد تصادف هذا العام أن يأتى صيام شهر رمضان متزامنا مع ما يعرف بصيام العذراء مريم عند إخواننا المسيحيين وهم يصومون فيه لمدة أسبوعين أو ثلاثة فى الفترة من السابع حتى الثانى والعشرين من أغسطس من كل عام احتفاء واحتفالا بالسيدة مريم عليها السلام فقلت لعل ذلك يكون سببا فى التذكير بوحدة الأمة المصرية التى تقدر وتقدس معا مسلميها ومسيحييها السيدة مريم وأن يؤدى ذلك إلى تخفيف حدة الاحتقان الطائفى الذى بات ظاهرا للعيان لا تغفله عين عاقل والذى راح الحمقى والجهال ينفخون ناره، والتى لن ينجو من لهيبها وأثرها أحد إلا أن يحزم العاقلون فى السلطة الدينية من كلا الطرفين أمرهم فيطفئوا تلك النيران ثم يساعدهم فى وأد هذه الفتنة السلطة التنفيذية وذلك بالتعامل مع الأحداث بحكمة وعقلانية رافعين شعار "الدين لله والوطن للجميع".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة