معصوم مرزوق

تجريد التاريخ من ملابسه..!!

الإثنين، 16 أغسطس 2010 07:38 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أدرى لماذا يحلو للبعض أن يقصقص صفحات التاريخ كى يلهو ويعبث بها؟ وكأنى بهذا البعض يدعى أنه سيعيد اختراع البخار أو بناء الإهرامات.. وما أكثر سموم الأوهام التى يحاولون تسويقها لبسطاء الناس فى قراطيس العقلانية المزيفة، والوقوعية الكاذبة!!.

المأساة / الملهاة أن واقعة التلبس بتزوير التاريخ لا تنصب على تواريخ سحيقة بهتت وتوارت وجاز أن نعيد زيارتها اتفاقاً واختلافاً، وإنما يقع التزوير على وقائع كنا ولا زلنا شهوداً عليها، والأمثلة تستعصى على الحصر.

خذ عندك مثلاً قضية بناء السد العالى، ولن تجد عبثاً أشد طرافة وصدمة من حكايتها، ففى نظر هؤلاء المؤرخين الجدد لم تكن هذه القضية تعبيراً عن إرادة شعب صمم على الانتصار، أو كما غنى عبد الحليم (وغنى معه الملايين فى مصر وباقى الدول العربية) "قلنا ها نبنى وآدى إحنا بنينا السد العالى"، والمسألة لم تكن "ضربة معلم" وإنما "ضربة حظ"، وإنها أدت إلى انتهاك السيادة المصرية بتغلغل الخبراء السوفييت.. ليس هذا فحسب، بل تقلد البعض الآخر ثوب العلماء وطفق يفتى فى جريمة بناء السد التى أدت إلى القضاء على جنس السردين المسكين، وانحسار الغرين والطمى المخصب بما أدى إلى بوار الأرض.. إلخ، ثم تجرأ البعض الآخر وادعى أن للسد آثاراً اجتماعية وثقافية سلبية تتمثل فى تهجير أهل النوبة.. باختصار رأى هؤلاء السادة أن تاريخ السد العالى ليس هو التاريخ الذى عشناه، ونعيشه حتى الآن، وأن ذلك السد هو من أكبر أخطائنا التاريخية.

ولست بصدد تفنيد هذه الادعاءات، لأن السد أعلى من أن تنال منه تلك الصغائر، ويكفى أن نشير إلى متوالية القحط والفيضان التى عانت منها دول الحوض (والتى عانت منها مصر كثيراً قبل بناء السد)، وكيف عصمنا الله من هذه الكوارث بفضل السد، ولن أتحدث عن إنتاج الكهرياء الذى أضاء قرى مصر وأدار عجلة مصانعها بأقل الأسعار.

خذ عندك مثلاً آخر فى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 (وهو موضوع يرتبط أيضاً بتحدى بناء السد العالى)، فلسوف تجد ما يكشف عورة هؤلاء الذين فقدوا حمرة الخجل، فرغم أن القاصى والدانى، العدو والصديق، قد أقروا فى شهاداتهم التاريخية أن تلك الملحمة قد أسفرت عن انتصار مصرى مدو امتد صداه لأرجاء الدنيا الأربعة، فإن هؤلاء يعيدون كتابة تاريخ هذا العدوان بشكل يصور الأمر كله وكأنه كان اعتداءاً مصرياً بدأ بالاستيلاء على أموال المساهمين فى شركة قناة السويس، وأنه كان من الطبيعى أن تهب الدول لتحمى أسهم مواطنيها، دون أن يذكروا لنا عدد الأسهم التى كان مواطنو إسرائيل يحتفظون بها فى قناة السويس، أو يشرحوا ما هى طبيعة السهم المصرى فى القناة التى حفرها أبناؤها بدمائهم، وتجرى داخل الأراضى المصرية؟.. ليس هذا فحسب، وإنما يذهبون فى غلوائهم إلى أن تأميم القناة كان خطأ تاريخياً، حيث أنها كانت ستعود إلينا عام 1968 غير محملة بأعباء، كما أنها – من وجهة نظرهم – جرت علينا عداء العالم بما أدى إلى إعادة إغلاقها بعد حرب 1967 وظلت مغلقة حتى عام 1975، أى أن مصر لم تستفد باستعادتها.

فى منتصف الثمانينات، كنت فى زيارة لبورتريكو التى تعد بشكل أو بآخر محمية أمريكية، وتصادف أن قابلت بعض أعضاء حركة سياسية للتحرر الوطنى هناك، وفوجئت بترحيبهم وتقديرهم بمجرد أن علموا أننى مصرى، قالوا إنهم بدأوا حركتهم بعد أن استلهموا من شجاعة الشعب المصرى فى تأميم القناة وصد العدوان الثلاثى، لقد أعطاهم ذلك أملاً فى المستقبل، وثقة فى إمكانية النصر، ولا أنسى الحديث الطويل الذى دار بعد ذلك حول مصر، ولكن ذلك ليس محله الآن.

لقد تحدث ثوار كوبا غير مرة عن تأثرهم بينما كانوا يناضلون فى جبال "سييرا ما يسترا" ببطولة الشعب المصرى ووقوفه الصلب ضد كل التحديات وتحقيقه النصر فى النهاية.

ولنأخذ مثلاً آخر من ادعاءات المؤرخين الجدد حول حرب 1967، حيث يستخلصون أن إسرائيل كانت فى موقف الدفاع عن النفس، وأن مصر هى التى بدأت العدوان بإعلانها إغلاق مضايق تيران، ويتغافلون عمداً عن المشاورات السياسية التى كشفت عنها كافة الوثائق والتى كانت تشير بوضوح إلى أن مصر لم تغلق الباب نهائياً عن حلول الوسط، وأن إسرائيل كانت تبيت النية لهذا العدوان بغض النظر عن أن تصرف مصرى.

ولست أحاول هنا أن أبرر الهزيمة، بل وسبق أن نشرت سلسلة مقالات فى مجلة الدبلوماسى لأوضح فيها ما برز من أخطاء فى إدارة الأزمة وفى القرارات التى اتخذت حينذاك، ولكننى أريد فقط أن أسلط الضوء على محاولة هؤلاء المؤرخين الجدد تبنى وجهة النظر الصهيونية لنزع صفة العدوانية عنهم وإلصاقها بمصر.. لقد كانت هناك أخطاء بلا شك، اعترفت بها مصر الرسمية بكل شجاعة، إلا أن إسرائيل – كعادتها – كانت هى البادئة بالعدوان العسكرى لأسباب كثيرة لم يكن أهمها إغلاق مضايق تيران.

خذ عندك أيضاً قصة حرب الإستنزاف المجيدة، التى أعادت الكرامة للعسكرية المصرية، وكانت التمهيد الضرورى لملحمة العبور، ستجد هؤلاء المزيفين يحاولون تشويهها، ووصلوا فى تبجحهم إلى ادعاء أن القيادة المصرية شنت هذه الحرب لمجرد إلهاء الرأى العام المصرى، أى أن دماء أبطالنا وأرواح شهدائنا كانت مجرد آداة للخداع.. ولا أجد تعليقاً مناسباً على هذا الهراء سوى بأن أقول: خسئوا وبارت تجارتهم، وأتعجب لماذا لم يلجأوا إلى مصادرهم الإسرائيلية ليعرفوا وقع هذه الحرب على المجتمع والجيش الإسرائيلى آنذاك.. طوبى لشهداء حرب الاستنزاف، ولأسرهم العظيمة التى لا زالت تعيش معنا وتتألم مثلما نتألم وربما أكثر بسبب هذا الإجتراء الفاضح على قدس من أقداسنا.

أنظر إلى ما يكتب ويقال عن عصر ما قبل الثورة فى صفحات هؤلاء المؤرخين الجدد، وعن ما يكتبونه بإزدراء عن فكرة القومية العربية، وفكرة العدالة الاجتماعية، وسوف ترى عجباً، خاصة إذا كان نفس الكتاب هم أكثر من دافع بصلابة عن هذه الأفكار، بل وقام بالتنظير لها بحماس منقطع النظير.. أنهم يعتمدون على ضعف ذاكرة الناس، فيستمرأون الخداع والكذب، يعانقون العار بوجه مستعار بينما يؤلفون تاريخاً يخلقونه خلقاً لأسباب تتعلق بلقمة عيش يغمسونها فى الذل والانكسار والانبطاح.

يا أيها السادة.. إن تاريخ مصر أعلى قامة من كل ما تهرفون، ومهما كانت دقة الزيف وتوافق الزمن المريض، فإن حقائق التاريخ تبقى ساطعة تكشف تلك الوطاويط التى انطلقت فى الظلام، أما تاريخكم المكتوب وتاريخكم الشخصى فمكانه المحفوظ معروف، هو نفس المكان الذى يحتوى على بقايا الأصابع المرتعشة وفضلات الفكر الإنسانى، وسنظل نفخر بإنجازات ابن مصر المخلص فى كل الميادين، ونضعها أمام أجيال قادمة من أبنائنا مشاعلاً يهتدون بها فى طريق المستقبل حتى تصبح مصر الحلم هى مصر الواقع.

يا أيها السادة.. إن الشعوب إن لم تجد بطولة فى تاريخها، فإنها تخترعها اختراعا، وكم شهدنا أعاجيب لأقوام صنعت من سفاحيها أساطيراً، وأقامت لمجرميها تماثيلاً، أما أنتم فكأن بكم مس من شيطان انتقام أعمى من الماضى، تهيلون التراب عليه، وتقذفون مصابيحه بأحجاركم، وكأنما تريدون نزع ملابس التاريخ كى يتساوى فى العار معكم.. خسئتم..!!!

* عضو اتحاد الكتاب المصرى






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة