أحمد عبد العزيز يكتب: على المقهى

الإثنين، 16 أغسطس 2010 10:28 م
أحمد عبد العزيز يكتب: على المقهى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى مساء كل خميس أنتظره على المقهى التى أمام منزلى، أعتاد على ذلك معه، بل اعتاد كل رواد المقهى على ذلك، الشخوص تكاد محفوظة لا تتغير، ما يتغير بالكاد إلا أماكنهم فقط واتجاه الدخان المنبعث من السجائر المشتعلة، تمتزج فيه روائح الشيشة ما بين الفواكه والعسل الأسود عديم الرائحة مع رائحة الماء الساخن الذى تعددت مرات غليانه كأنه يلقى عذاباً، الفتى النحيل يجوب المقهى الضيق فى غير توقف ولا استكانة، مترجم هو على طلب كل فرد فيها، فهذا عناب وذلك زنجبيل باللبن، وهؤلاء شاى بالنعناع، وهؤلاء ينتظرون النرد، الأمر محفوظ كأنه منهج دراسى يعتاد عليه، أشرنا إليه بالرغبة فى حجز مجلساً خارج المقهى الضيق، رغم علمنا برفض الفتى النحيل الذى يعانى من المخالفات التى تأتيه من جراء ذلك الفعل التى تحرمه قوانين الدولة، ولكن هيهات أن يخسر أفضل الزبائن، فيبدأ فى كل خميس بالرفض، ونظل نجتهد فى الطلب، وينتهى الأمر كالعادة بوضع الكراسى متلاصقة مع الجدران خشية أن يمر مسئول فيخالفه على ذلك.

لكنه بلا شك يتناسى أننا اختفينا عن الأنظار، ومررنا الكراسى فى هدوء بعيداً بعيداً حتى أصبحنا فى منتصف الطريق تداعبنا نسمات الهواء الباردة، وفى عبارات مكررة كملبسه المهرول يبصرنا، يشكو من المخالفات، وسرعان ما تغوص يده اليمنى فى جيبه فى حركة مكررة، تجذب محفظة من الجلد البالى تضيق بما فيها من أوراق، ينتشل إحدى هذه الأوراق مردداً أنها صورة لإحدى تلك المخالفات، ويقسم أغلظ القسم حتى نراها لنصدقه، فلا نراها ولا نصدقه، ولكن نرفع أيديناً تصديقاً، يضع الشيشة وينصرف ليحضر الطقطوقة الصغيرة وزجاجة مياه مثلجة وعلى يمينها ويسارها شاى النعناع.

لا يلبس أن ينصرف وينسى أمرنا تماماً إلا من تغيير النار كلما خَبتْ، تنفرج أرجلنا فى اتجاه الرصيف ينهال تعب النهار ويتسلل من عليها إلى الأرض، نتابع النظر من خلف الزجاج المتسخ والمحتل بالصور الملصوقة عليه فى صمت وعلى رواد المقهى الذين نحفظهم، أصوات الأوراق والنرد، وتلاطم أقراص الدومينو لها واقع مميز يبعث قشعريرة فى الجسد كأنها مغازلة، وقهقه الرجل الضاحك صاحب القبعة الشهيرة وكأنها لجمعه الشوان يضع مبسم السيجارة على جانب فمه وتسقط النظارة الطبية على طرف أنفه وكأنها ملصوقة، ولا تحملها السلسة التى تلتف خلف رأسه، يظل ينفخ فى وجه من يتحدونه فى الورق ويظل يُذيقهم مرارة الهزيمة من دور فآخر، يصوب نظراته الساخرة إليهم وهو ينفخ فى وجوههم دخان سيجارته فى ابتسامة نصر وزهو لا تفارقه حتى ولو كان مغلوباً، تشترك فيها كل معالم وجهه، فهو ضاحك الوجه بشوش بطبيعته كأنه خلق هكذا، ولا يكف عن الكلام والصخب، أحيد عن هذا المشهد والمقهى الصاخبة ومن فيها، ثم أتوجه إليه بوجهى فى تنهيدة كبيرة، أخرج فيها مزيداً من الدخان من فمى، وبلا نظرة مباشرة لى أو لسحابة الدخان الأبيض التى شتتها زفير أنفى، وهو رامقاً السماء يكاد يحدثنى.

فيقول: لماذا خُلقنا؟
فأقول: لنعبده،
فيقول: ولو لم نعبده؟
فأقول: سيعذبنا
فيقول: ولماذا هل يحب ذلك؟!
فأقول: لا .. ولكن لأننا لم نطعه واتبعنا الشيطان
فيقول: لقد خلق الشيطان وهو أعلم بكل شىء ويعلم أنه سيضلنا فلماذا إذن؟
فأقول: حتى يميز الخبيث من الطيب
فيقول: ما دام يريد لنا أن نكون من الطيبين العابدين لماذا لم يقتل الشيطان من أول الأمر أو يلقيه فى النار ونستريح؟!
فأقول: فأين الامتحان إذن؟!
فيقول: وما الداعى من البداية؟
فأصمت ......

وأنادى على الفتى وهو يجول أمامى، وقد سقط منه بنطاله شيئاً يسيراً، فيأتى ويديه تحمل ناراً فى إناء ذات يد، يحركها يميناً ويساراً فى سرعة كبيرة على آثرها يطير منها الشرر ويقفز لهب إلى أعلى محدثاً صوتاً كأنه رعد رقيق، لكنه كاد يثقب أٌذنى، وتطايرت على الفور شرارة مرت أمام عينى وحدى كأنها القصر، وعلقت أخرى فوق ظهر يدى انتفضت منتبهاً، تمتمت مبرراً لمن لست أراه، علنى أتفكر فى ملكوت السماوات والأرض، وانصرفت مستغفراً وحيداً كما جلست وحيداً.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة