"وطنى غضبة الغريب على الحزن.. وطفل يريد عيدا وقبلة.. ورياح ضاقت بحجرة سجن.. وعجوز يبكى بنيه وحقله.. هذه الأرض جلد عظمى.. وقلبى.. فوق أعشابها يطير كنخلة.. علقونى على جدائل نخلة.. واشنقونى فلن أخون النخلة"..
تلك بعضا من كلمات الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش بعنوان وطن..
هذا الوطن الذى حلم برجوعه مثلما كان.. دون احتلال وترويع ونهب وسلب وطرد من الأرض ليسكنها غصبا دخلاء صهاينة من أشتات العالم فيقتلون وهم يضحكون وسط الصراخ والخراب وأشلاء الأجساد الطاهرة (تعلّمتُ كل كلام يليقُ بمحكمة الدم كى أكسر القاعدهْ.. تعلّمتُ كل الكلام، وفككته كى أركب مفردةً واحدهْ هى: الوطن..) فعشقه الأول وقضيته الأولى هى الوطن السليب.. فلم يتوان عن زلزله أجساد أعدائه وتقطيعها بكلماته التى لم يكن يمتلك غيرها.. لم يمتلك رصاصهم المصبوب ولا دبابتهم الحديثة ولا صواريخهم الإلكترونية أو طائراتهم الاستطلاعية امتلك الكلمة فكان كجيش بمفرده أمامهم فضاقوا به وبكلماته المحلقة فى أرجاء الدنيا، فأنشدها الناس وتعاطوها ورددوها بالدموع على وطن سليب وأرض قد ضاقت لحد الاختناق من أنفاس وإقدام احتلال مقيت وبإمكانيات بسيطة لا تقارن بترسانة الغول الضخمة قاوموا كأبطال الأساطير.. بصدورهم العارية.. وبيدهم حجارة الأرض السليبة.. فكان هذا مدعاة لدهشة الأعداء.. واستغراب الغرب.. وخجل العرب الجالسين للمشاهده.. فأبدع الشاعر قصيدته: أيها المارون بين الكلمات العابرة.. منكم السيف - ومنا دمنا.. منكم الفولاذ والنار - ومنا لحمنا.. منكم دبابة أخرى - ومنا حجر.. منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر.. وعلينا ما عليكم من سماء وهواء.. فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا.. وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا.. وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء.. وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء.. لم ييأس يوما من فعل الكلمة المقاومة المحرضة.. لم يعتبرها كلمة تقال دون أثر يذكر.. بل تحقق كل ما يود من استبسال وكفاح وإظهار القضية جلية أمام العالم.
وعنه قال شارون السفاح عن محمود درويش: أنا أحسده على حبه لأرضه وتعلقه بها.. كان شاعرنا يعلم ماذا يقال عنا فقال متحديا: سنخرج من معسكرنا.. ومنفانا.. سنخرج من مخابينا.. ويشتمنا أعادينا.. "هلا. همج هم.. عرب".. نعم عرب ولا نخجل.. ونعرف كيف نمسك قبضه المنجل.. وكيف يقاوم الأعزل.. ونعرف كيف نبنى المصنع العصرى.. والمنزل .. ومستشفى.. ومدرسة.. وقنبلة.. وصاروخا.. وموسيقى.. ونكتب أجمل الأشعار.. ولد الشاعر عام 1941 فى قريه البروة قرب عكا خرج منها لاجئا إلى لبنان عام 1947 وتسلل إلى أرضه ثانية بفلسطين عام 1949 لكن لم يجد أرضه ولا منزله لقد ابتلعهما الاحتلال الغاشم.. فعاش مناديا بحقه وحق شعبه بشعره النازف على الأعداء غضبا ونارا.. فاعتقل ثلاث مرات إلى أن سافر ومكث لاجئا فى مصر ثم لبنان إلى أن استقر بباريس ثم تقدم بطلب لزيارة أمه المريضة بفلسطين وسمح له بالزيارة، وأثناء ذلك تقدم بعض أعضاء الكنيست العرب واليهود بطلب آخر وهو السماح له بالبقاء فبقى.. ولأن قلبه متعب.. منهك.. فلقد أنهكه من جديد فتم عمل جراحة له فى القلب وهى الثالثة على مدار عمره، لكنها الأخطر ففشلت، وفى العاشر من أغسطس عام 2008 وعن عمر يناهز سبعة وستين عاما صعدت الروح إلى بارئها لننشد بعدها ما كتبه عن الموت:
يا موت! يا ظلى الذى ستقودنى، يا ثالث الاثنين، يا لون التردد فى الزمرد والزبرجد، يا دم الطاووس، يا قناص قلب الذئب، يا مرض الخيال، اجلس على الكرسى.. ضع أدوات صيدك تحت نافذتى وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة.. لا تحدق يا قوى فى شرايينى.. لترصد نقطة الضعف الأخيرة.. أنت أقوى من نظام الطب.. أقوى من جهاز تنفسى أقوى من العسل القوى.. ولست محتاجاً – لتقتلنى - إلى مرضى!
محمد فوزى طه يكتب: منكم الفولاذ والنار.. ومنا لحمنا
السبت، 14 أغسطس 2010 12:23 ص