معصوم مرزوق

فتافيت قلب

الجمعة، 13 أغسطس 2010 07:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قطرات من زمن سحيق تضرب سطح أوراقى، تمزق خيوط عنكبوت الأسى، تنتثر كلماتى زهوراً قرمزية ترتعش كلما لامستها ريشتى ..
فى البدء كانت .. ومنذ البداية كان الشيطان ، زوجة لوط ، يهوذا ، أبو جهل .. وفى الأركان كان سقراط ، أفلاطون ، أرسطو ، بيثاجوراس ، جابر بن حيان ، إبن رشد ، ابن سينا ، ابن خلدون .. ذبذبات متوالية والقطر يتوالى على السطح الجاف المتشقق ، حتى صار بحيرة ، بحيرة من المداد والأفكار والمشاعر ..
" الحكمة ضالة المؤمن " .. ولكن ما هى الحكمة ؟ .. لماذا ألقوه فى الجب ولم يقتلوه ؟ .. لماذا لم يؤمن الفرعون بموسى ؟ .. ماذا لو لم يأكل آدم من الشجرة المحرمة ؟ .. ماذا لو لم يولد هتلر ؟ ... حب المعرفة ؟ ، ولكن ما هى المعرفة ؟ .. السؤال الذى يفتش عن جواب ، أم الإجابة التى لا تجيب على أى سؤال؟؟ ! ..

ملائكة مجنحة تحوم كفراشات بنفسجية فى مخروط ضوء أبيض على جدار كاتدرائية قديمة فى فينسيا ، أصداء أغنيات أو تراتيل أو آذان فجر فى واحة صحراوية نائية ، لحظة الكشف هى نفس لحظة الغيبوبة ، إسراء إلى البداية ، معراج إلى النهاية ، والمسافة والزمن صفر، انكفاء على الذات ثم إدراك هادر كالسيل يزيح كل قصاقيص الصور القديمة المهترئة ، وعلى حافة الجبل البعيد ظلال الراعى العجوز وحوله الخراف والماعز وشبح امرأة تهفو إليه .. ترعد السماء وتبرق ، ينحنى الكون مرتاعاً من الآتى ، ولكن الأمطار لا تهمى ...

نسوة السوق يثرثرن ويجادلن ، ضوضاء وصخب وزحام وصيف لا يرحم ، ارتفعت أسعار البترول ، انفجرت قنبلة أخرى فى الكاظمية ، قمة جديدة للعشرين ، محمد الدرة يقتل بين ذراعى أبيه .. دموع محبوسة ، كراهية تحرق الصدور .. السلطة تزف إلى الثروة ، يكتب الكاتب المشاغب ، المولود كائن مشوه قبيح ، تدق الطبول إحتفالاً بميلاد الملك الجديد ، يوزعون الحلوى على الجائعين الذين يرقصون وينشدون فى الحوارى والأزقة ، ويلقى الزعيم خطبة العرش : " ضاع الماضى والحاضر ، ولكن بقى لنا المستقبل " ، تنفجر الحناجر : "تقدست يا حارس الأحلام " ...

يتحنجل القلم خلف لسانه المقطوع النازف ، المداد أحمر ، والصفحة حمراء ، والكلمات مبتورة ، يتجلى ذلك الصباح البعيد عند أطلال مدينة " الكاب " ، يجلس مجموعة من الشباب فى أرديتهم الكاكية مرهقين ، يمتصون ما تبقى معهم من الطماطم وكسرات الخبز الجاف ، يضحك فائق : " منذ أسبوع واحد كنت أجلس معها فى حديقة الهيلتون نشرب الليمون .. آه لو رأتنى الآن ! " .. سميرة عشقه المزمن ، منحته كل شئ ، أو هكذا تخيل قبل أن تخترقه الطلقة الغادرة ، ارتدت الحداد طويلاً قبل أن ترسل الدعوة لحضور حفل زفافها .. سلمتها صورتنا عند الكاب .. هذا كل ما تبقى من ذكراه ...

كم مرة انكسر القلب وتسللت من شقوقه صفوف النمل الأسود ، حتى فى شهقة الفرح ، ورقصة النصر ، اللحظة الحاضرة منعدمة ، فدائماً هناك لحظة أخرى ، هناك فى سويداء الزمن سرداب أسود يكتنفه الغموض ويثير الخوف والأسى ، أنهم هناك فى باطن هذه التلال التى صارت منتجعات اللهو والخلاعة ، هناك – ما زلوا – فى أردية الإحرام الكاكية يرتلون تلاوات الأرض المقدسة ..

" عش العصر يا متخلف .. أنها البورصة " .. كانت سميرة تمشى فى " الشانزليزيه " ومعها طفلتها ، لم أعرفها فى البداية ، كان شعرها مصبوغاً بالأصفر ، ومنخارها أصغر ، ولهجتها مغربية .. " لن أنساه ما حييت ، أروى حكاية حبنا لكل الناس حتى زوجى " .. دعتنى لشراب فى مقهى قريب قالت أنها تفضله لأنها تسمع فيه أغانى أم كلثوم .. ضحك فائق عندما سأله أحدنا أن يصفها لنا ، قال هائماً : " هى الأنثى العبقرية المنفردة " .. كان الخمر قد لعب برأسها حين قالت لى : " كان آخر الرجال " .. بكينا ، بينما طفلتها التى لا تفهم كلمة عربية واحدة تنظر إلينا بدهشة ..

قال سقراط لمحاوريه : " أنا لا أخاف من الموت ، لأنه سيتيح لى لقاء بشر أفضل ممن سأتركهم فى الدنيا " ، ثم شرب السم الذى قدموه إليه .. تراك سقراط حققت حلمك ؟ .. قالت لى أستاذة المصريات الألمانية : " تاريخكم مليئ بالأسرار بعكس الإغريق ، تقدسون الموت وهم يقدسون الحياة ، أنتم أساطير لا زالت تحيى ، وهم حياة صارت أساطير ، أنتم الوجدان الذى خلدته الأهرامات ، وهم العقل الذى يصنع الخلود " .. قالت كلاماً كثيراً لا أذكر سوى ما دونته فى دفترى الصغير ، ولكننى أذكر أننى قلت لها :" لقد أصبحت أكره التاريخ " ..

كان خوفو يجلس فوق عرشه على صخرة وهو يراقب أعمال البناء ، أسواط جلاديه تلهب ظهور العبيد وشمس بؤونة تحرق الرؤوس ، همس أحدهم بألم : " لديه قصر فى الدنيا ، ويريد قصراً فى الموت .. ونحن لا نملك خبز يومنا " ، لم ينصت المؤرخ الكهل لهذه الهمسة أو لغيرها ، فقد كان مشغولاً فى كتابة تاريخ الملك العظيم وانتصاراته على الأعداء.. هرش خوفو فى رأسه مفكراً : " كيف أحكمهم بعد موتى ؟ " ، أشار له المؤرخ الكهل إلى كتاب التاريخ مبتسماً ...

عادت فوق حصانها الأبيض ، وصار يستمتع بانتظارها كل صباح خلف الشجرة العتيقة ، نفس الملامح لم تتغير ، نفس الرقة الطاغية ، وكأن لا عمر قد مضى ، ولا قلب صلبته الوقائع والمحن ، كأنها بأناملها الشفافة الرفيعة تجذب أستار السنين كى يعود المشهد كله كما كان بكل فتوته وصبابته ، أنفتح القلب كزهرة عباد الشمس تنظر إلى شمسها الساطعة ، بينما عادت معها كل النغمات التى تاهت فى صحارى الأيام والليالى ، جذبته من فوق فراش المرض ، مسحت على جبهته بأنفاسها المعطرة ، قالت له : تعال .. فجاء ...

سطوة القلب غالبة لا غالب لها ، لا مجال فيها لزمن أو لحكمة أو جدل .. سطوة خضعت لها التيجان فوق رؤوس الملوك والأباطرة ، ولانت لها سطور الشعراء فأنبتت حدائق الشعور الخالدة ، وعندما يخربش القلم من جديد وكأنه طفل يحبو ، تتعثر الكلمات من شدة الفرح ، تمتلئ بنشوة الإبداع متراقصة منشدة ، تختل عقارب الساعات ويختلط الذى كان بالكائن ، وتطل عرائس الأحلام بخيالات الذى قد يكون ...

رفعت الأقلام وجفت الكتب ، توارت الشمس خلف السحب ، كل السطور سقط متاع ضاع ، وثرثرات بلا وزن ولا إيقاع ، هو الخريف ينفخ فى أوراق العمر الباقية ، ينتزع من القلب لحنه الأخير ، ولن تكون قراطيس أوراقك إهرامات ولا حتى مسلات ، فاخلع قلمك قد صرت فى الفضاء المقدس أو على مشارفه ، أصفع كهنة المعابد صفعتك الأخيرة ، اكتب على شاهد ما تبقى منك أنه كفاك شرف المحاولة ، وأنك عندما ارتفعت السياط لم تنحن ، وعندما راودتك عن نفسك لم تأثم .. أكتب فى الختام أنك كنت الفارس فى الهوى والوغى رغم محنة الأيام ...








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة