إبراهيم داود

الريادة الرمضانية

الخميس، 12 أغسطس 2010 10:43 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أشعر وأنا أستقبل شهر رمضان المعظم هذا العام بغربة شاسعة، بعد أن خزّن التجار احتياجات السوق فى التليفزيون، وبعد أن توارى معناه السامى خلف إعلانات المسلسلات التى تحتفى بالجرائم والخيانة والملوك وتجار المخدرات وإعلانات المحمول والمياه الغازية.

لم يعد الشهر الكريم فرصة لالتقاط الأنفاس بعد أحد عشر شهراً قمرياً، كبلتنا فيها الحكومة من أرواحنا، وقاموا بتخزين الحكايات (التى تشبه الحكايات) لكى تبدد وحشة الصائم، ولكى لا يتحدث أحد مع أحد، وتظل عفاريت الغضب والاضطرابات والاعتصامات محبوسة، ولا تتذكرها الصحف والفضائيات.

المحررون الفنيون يعيشون أزهى شهور عمرهم، لأن أمامهم شهرين من اللت والعجن مع النجوم والمخرجين وكتاب السيناريو «العميقين» الذين سيتحدثون عن أعمالهم «الهادفة»، ستفتح الصفحات وبرامج التوك شو على مصاريعها، لكى يؤكد الأبطال للمشاهد المحاصر فى بيته أنه يعيش فى «حكاية»، وأن نجما ما طيبا كان أو شريراً سيرافقه حتى استطلاع هلال شوال. تشعر من خلال الإعلانات المهيبة فى الصحف والفضائيات، أنك أمام مشروع قومى لمحاصرة الخيال واختطاف الشهر الكريم، من أجل تسطيح القضايا العامة.

فى هذا العام، لا أحد يتوقع انخفاضا فى درجات الحرارة، ولا فى الكثافة المرورية، ولا فى انخفاض الأسعار أو «فرملتها»، ولا عودة لأراضى الدولة التى وزعتها الدولة، ولا فى مواجهة إسرائيل وفيروس سى والفاسدين، وربما تستمر هوجة الملصقات بين مرشحى الرئاسة الذين لا يصلح أحدهم للقيام ببطولة مسلسل، ولن تتوقف تصريحات وزراء المجموعة الاقتصادية الذين لاشك أنهم يعرفون أن عقاب الكذب يتضاعف فى رمضان. تعتقد الحكومة ورجال أعمالها (فى الفضائيات) أن المسلسلات ستمنح مصر الريادة فى «المنطقة»، خصوصاً بعد ضياع فلسطين المحتلة، وتقسيم السودان، وضياع العراق، وتكاتف دول حوض النيل ضدنا، وفقدان الثقة فى المستقبل. فى الدراما الحديثة لا يوجد عمال ولا توجد مصانع، يوجد فلاحون لا يشيبون أبدا، لأنهم يصبغون شعرهم، وأسنانهم بيضاء ولا يعانون من أمراض الكبد والكلى، البيوت نظيفة ومرتبة وحسنة الإضاءة وواسعة، والأحزان التى تفرضها الأحداث غالباً طارئة ومفتعلة، ورجال الأعمال يدخنون السيجار، و«يلسنون» على الرؤوس الكبيرة، مثلهم مثل الصحفيين والممثلين فى الكواليس، أنت أمام خزين يكفى ويزيد، لكى لا يعلو صوت فوق صوت الممثل وإنجازات الحزب الوطنى والبرامج الصحفية العبيطة التى ستكون مؤثرة ومليئة بالاعترافات المثيرة.

فى الصحف توجد صفحة إضافية لشيوخ الفضائيات والصحف، سيقولون لك كلاماً سمعته أو قرأته مراراً، ولن يتحدث أحدهم عن عقد مدينتى ولا آمون ولا عن الأحزان الحقيقية التى يشعر بها الآباء، ولا خيبة الأمل التى يشعر بها الأبناء.

لقد حول الإعلام شهر رمضان إلى خيمة ولم يكتشف قارئاً جديداً للقرآن، ولا كلف نفسه عناء البحث عن أغنية ترحب به كما فعل الأسلاف، تشعر أنهم يريدون اختطافك، بعيداً عنك، لكى «يعيش اقتصاد السوق»، ولكن الشهر الكريم الذى حصنك ضد الأكاذيب منذ طفولتك، يأخذ عشاقه الكثار.. إلى مكان أوسع.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة