معصوم مرزوق

على راسنا ريشة!!

الأحد، 01 أغسطس 2010 08:37 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أزعجتنى بعض التغطيات الإعلامية لجريمة القتل التى ارتكبها مذيع بالتليفزيون المصرى مؤخراً، حيث شرعت الأقلام سكاكيناً تشرح فى أدق خصوصيات القاتل وزوجته وبعضه لا يصح إباحته للعامة، وتسابق محررو صفحات الحوادث فى إجراء التحقيقات، وانتزاع الصور، والاستماع إلى الشهود، وإصدار الأحكام..

ولا أدرى من يعطى للإعلام الحق فى أن يكون جهة التحقيق القانونية، وسلطة إصدار الأحكام؟، بل كيف يبيح أى صحفى لنفسه أن ينشر ويذيع عورات الناس، سواء تحقق من وجودها أو اختلقها اختلاقاً؟، أليست هناك حدود قانونية وأخلاقية، ناهيك عن الحدود الدينية، التى يجب أن ترتفع أسوارها لستر عورات الناس؟.

سوف يحتج البعض بأن "الإثارة والتشويق" هما مادة الإعلام ويردد المثل الذى أكل عليه الزمان وشرب: "إذا عض كلب رجلاً فذلك ليس خبراً، ولكن إذا عض رجل كلباً فذاك هو الخبر"، ورغم أن هذا المثل صحيح فى مبناه إلا أن تطبيقاته مختلفة ومتضاربة وغير محددة، فلا شك أن نقل خبر عن واقعة رجل يعض كلباً يتضمن قدراً من الإثارة والطرافة لأنها خروج على المألوف وتبرز صورة عكسية صادمة تجذب القارئ، والجرائم بأشكالها المختلفة تعد أيضاً خروجاً على المألوف بما يبرر الحرص على إبراز أخبارها، ولكن إذا بالغ المخبر الصحفى فى تغطية الجريمة بانتهاك خصوصيات أطرافها، أو بتوجيه الرأى العام وجهة معينة تجاه المتهمين، فإن المسألة هنا لا تتعلق بإثارة أو تشويق وإنما– فى تقديرى– اعتداء سافر على حقوق هؤلاء المتهمين.

وربما يتحجج البعض الآخر بأن "الجمهور عاوز كده"، وأن مالك الوسيلة الإعلاميـــة "عاوز كده" أيضاً لزيادة التوزيع والمبيعات وبالتالى زيادة الإعلانات، وباختصار المسألة تتعلق باقتصاديات الإعلام.. وربما يكون لتلك الحجة وجه من الحقيقة، فأغلب الناس يسيل لعابها على فضائح الآخرين، بغض النظر عما إذا كان يقبل ذلك على نفسه، ويدلل أصحاب هذه الحجة على ذلك بالتوزيع الكبير لصحف الإثارة الصفراء، بالمقارنة مع الصحف الجادة، بل عدم اكتراث أغلب القراء بالمقالات والأخبار السياسية والثقافية والاقتصادية قياساً على اهتمامهم بصفحات الرياضة والحوادث.

وقد يضيف البعض لما تقدم دراسات نفسية تؤكد انفتاح شهوة الناس لابتلاع فضائح الآخرين، للبرهنة على أن ذلك مكون أساسى فى الإنسان بغض النظر عن ثقافته أو محدداته الدينية والأخلاقية والقانونية، وأن الوسيلة الإعلامية تلبى احتياج هذا الإنسان.

تقديرى– وقد أكون مخطئاً– أن ذلك التعميم غير علمى وغير صحيح على إطلاقه، ولست استثناء فى شعورى بالتقزز لاقتحام خصوصيات الناس دون إذن منهم، أو استغلال سقوطهم للتكاثر مثل الذباب على عيوبهم، وأظن أن أى نفس سوية تعف عن ذلك، فلا يمكن أن تكون تلك الرغبة الشريرة فى اقتحام خصوصيات الناس مكوناً أساسياً فى الإنسان، بل إنها تعكس مرضاً نفسياً لا بد من علاجه.

إن الرسالة التى يحملها الإعلام لا ينبغى تلويثها بأبجديات السوق، خاصة إذا كانت تلك الأبجدية قد تدهورت وانحطت، فالوسيلة الإعلامية ليست مجرد مشروع تجارى، وإنما هى قبل ذلك إحدى الأدوات الهامة للمعرفة والتنوير، وإذا لم تكن مطالبة بقيادة حركة إصلاح شامل، فعليها على الأقل أن تمهد لذلك، لا أن تكون بعض أدوات هدم ما تبقى من مخزون قيمى للمجتمع.

وربما يحتج فريق ثالث بأن ما نقلته الصحف لم يكن سوى تصريحات للمتهم أو محاميه، وأن كل ما نشر أتيح لتلك الصحف بواسطة أطراف الواقعة نفسها، وأن دور وسائل الإعلام لم يكن سوى النقل الأمين لتلك المعلومات المتاحة، ولا توجد شبهة اقتحام خصوصيات فى الموضوع.. وأقول حتى لو صح ذلك، فإنه ليس كل ما يعرف يقال، بل لا بد أن يكون هناك فرز ونخل وتمييز، وإلا وجدت الشتائم والألفاظ النابية طريقها إلى وسائل الإعلام، فضلاً عن أن المتهم فى محاولته للدفاع عن نفسه قد يبالغ فى تعرية عورات الضحية، كما أن دفاع الضحية من مصلحته تشويه صورة المتهم، ولا يمكن لإعلام يدرك قيمته أن يرضى لنفسه أن يكون كرة يتلاعب بها أطراف القضية.

والأهم من كل ما تقدم هو أن سلامة التحقيقات فى أى قضية تقتضى توفير المناخ الملائم لجهات التحقيق والفصل كى تصل إلى الحقيقة، بل أن مصلحة المتهم تتطلب توفير ضمانات قانونية أبرزها حقه فى الصمت والاستعانة بمحام حتى لا يتورط فى تصريحات تضر بموقفه فى القضية.

من المزعج حقاًَ أن يخوض الإعلام بلا روية فى أعراض الناس وما يمس شرفهم بحجة حق الرأى العام فى المعلومات، فالاسم الحقيقى لذلك ليس نقلاً لمعلومات، وإنما قذف وسب وادعاء كاذب لم يثبت القضاء بعد صحته، فما هى مصلحة الرأى العام فى الاطلاع على المغامرات الجنسية للمتهم، أو لادعاءاته بشأن مطاردات غرامية أو سلوكيات غير لائقة لضحية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لأنها فارقت الحياة.

أخشى أن ينبرى البعض كى يتهم هذه السطور بأنها تهدف إلى تقييد حرية الصحفى، أو أنها تحض على تهديده وسجنه، وذلك أبعد ما يكون عن قصدى أو فهمى لمعنى حرية الصحفى أو حرية التعبير بمعناها الأوسع، إلا أننى أرى أهمية أن نمارس النقد الذاتى لتنقية السطور من بعض ما يشوبها من قصور، أن نرتقى كتاباً وقراءً فيما نكتب أو نقرأ، فلا يمكن ادعاء حصانة ضد تجاوز لأبسط حدود الأخلاق والقانون والدين.

وأتصور أن هناك فارقاً بين "الإثارة" كأسلوب فى الصياغة، وبينها كأسلوب لدغدغة مشاعر وأمراض وأوهام بعض القراء، ولا أظن أن من واجبات المخبر الصحفى أن يهتك أستار خصوصيات الناس كى يتصيد عوراتهم وعاهاتهم ويعرضها على الناس، حتى ولو كانت الناس "عاوزه كده"، ومع احترامى لمهنة القلم المقدسة وكل من يحمله مشعلاً فى المجتمع، أقول إن الله يستر عورات الناس، فلا تفضحوها، سترنا الله وإياكم.

* عضو اتحاد الكتاب المصرى.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة