معصوم مرزوق

"مائة عام من العزلة" جذور محلية صعدت إلى العالمية

الإثنين، 05 يوليو 2010 07:33 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى 30 مايو 1967، صدرت الطبعة الأولى من رواية لكاتب مغمور-آنذاك-، وكانت هناك لنفس الكاتب أعمال أخرى قبل هذه الرواية لم تثر انتباه أحد. وبعد أكثر من عشرين عاماً على صدورها وزع من هذه الرواية أكثر من أربعين مليون نسخة، وترجمت إلى كل لغات العالم تقريباً، كما أن الكاتب نال عنها جائزة نوبل عام 1982.

الرواية هى "مائة عام من العزلة"، والكاتب هو جابرييل جارسيا ماركيز، لم أشعر بمدى الظلم الفادح الذى لحق بهذا العمل الأدبى العظيم فى ترجمته العربية إلا عندما قرأته فى لغته الأصلية (الأسبانية)، إن الكثير من السحر الكامن فى هذا العمل مفقود فى الترجمة العربية التى قرأتها منذ سنوات، وقد يعود السبب فى ذلك إلى تلك الترجمة الميكانيكية (القاموسية)، أو لعدم تعرف المترجم على الأجواء التى تحركت فيها شخصيات هذا العمل، أو لأسباب أخرى تتعلق بأكل العيش والاسترزاق واستثمار بريق نوبل فى الأسواق والمزادات التى يعدها وراقون محترفون.

قبل أن ينال جارسيا شهرته العالمية، التقى به أحد الصحفيين عام 1981، ووصف حياته البائسة التى كان يحياها فى أحد الفنادق المتواضعة بالحى اللاتينى فى باريس، ينتظر كل شهر أن يصله شيك بأجره من صحيفة "الإسبكتادور" التى يعمل لها، تماماً مثلما كان ينتظر الكولونيل البائس وصول شيك المعاش فى روايته الشهيرة "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، ذلك الشيك لم يصل أبداً.

وأخيراً، كان كل ما وصله هو تلغراف من تلك الصحيفة يقول بالنص: "اذهب إلى روما لتغطية خبر وفاة البابا"، بعد ذلك، أغلقت هذه الصحيفة فى عهد الحكم العسكرى الذى رأسه روخاس بنيليا، وهكذا تعين على جارسيا أن ينام فى حدائق باريس كالصعاليك، ودائماً أمام المسلة الفرعونية كان يحلم بالتمساح المقدس، اسم الشهرة الذى أطلقه على حبيبته الدائمة ميرسيدس بارتشا.

عندما ظهرت روايته "مائة عام من العزلة" اختلف قراؤها فى أمريكا اللاتينية حول كلمة "ماكوندو" فقال البعض إنها اسم نبات يلئم الجراح، وقال آخرون إنها شجرة لا فائدة منها توجد فى بعض المناطق الاستوائية فى القارة.

ومن واقع معايشتى للحياة فى العديد من أقطار أمريكا اللاتينية على مدى أربعة أعوام، واقترابى بعض الشىء من تاريخها وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها، أستطيع أن أؤكد أن الواقع فى هذه القارة يفوق أى خيال، وهو أكثر غرابة من الأحلام. وقد أكد ذلك جارسيا ماركيز حين قال: "إنه لم يفعل فى قصصه ورواياته سوى أنه نقل لصفحاته ما رواه له جده وجدته"، ويحكى كيف روت له قصة ولادته فى "أراكاتا" والفترة الذهبية عند وصول الشركة المتحدة للفواكه، وكيف عانت قريته من أمطار غزيرة، وكذلك مذبحة العمال فى منشآت الموز حين أعلنوا الإضراب.

كل ذلك احتفظ به جارسيا لكتاباته القادمة، بل إنه صرح أيضاً ذات مرة بأن أسلوبه هو أسلوب جدته، ولا نستطيع أن نغفل أثر جده الذى كان عسكرياً متقاعداً بعد أن شارك فى الثورات والحروب المتتالية فى كولومبيا.. لقد روى الجد لذلك الطفل – جارسيا – عن المغامرات العسكرية، والمواقع التاريخية التى شهدها وشارك فيها.

إن شخصية الجد ستظل دائماً فى ذاكرة جارسيا ماركيز، وستطفو بشكل مستمر، فالجد مثلاً هو ذلك الكولونيل المتقاعد فى "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، وهو خوسيه أركاديو بوينديا، مؤسس ماكوندو، وهو فى الوقت نفسه الكولونيل أوريليانو بوينديا –الذى حرك 32 انتفاضة عسكرية وخسرها جميعاً – والجد هو أيضاً – وبنفس اللقب – الكولونيل جيرنيلدو ماركيز.

لا يمكن أن تكون هناك روابط بين حياة مؤلف وروايته مثلما توجد بين واقع جارسيا ماركيز والواقع الذى كتب عنه، وهو ما يتناقض مع كثير مما كتبه النقاد الذين تناولوا أعماله وخاصة "مائة عام من العزلة"، ووصفوها بأنها إغراق فى خيال محض تداعت أحداثه فى عقل الكاتب.

لقد ذكر جارسيا ذات مرة أن جده مات، بينما كان جارسيا يبلغ من العمر ثمانية أعوام، وعلق على ذلك بقوله: "منذ ذلك الحين، لم يحدث شىء هام فى حياتى".. أن طفلاً فى مثل عمره يأخذ حكايات الأجداد ويختزنها بوصفها أكثر قيم الواقع نقاء، وبهذا الشكل فإنه على أساس هذه الواقعية كان بناء "مائة عام من العزلة".

والحقيقة أن هناك الكثيرين من النقاد – فى أمريكا اللاتينية – يعتبرون أن هذه الرواية واقعية تماماً، فهى وإن كانت تعكس بيئة جغرافية لشعب غير موجود، إلا أنه حاضر بشكل صارخ فى كولومبيا، بالانتفاضات والحروب المستمرة فى هذا البلد، والصراع بين الليبراليين والمحافظين، وكذلك استغلال شركة الفواكه .. إلخ.

إن الأمور التى تعتبر حقيقة نظراً لطبيعتها، مثل الحياة والموت، نجدها فى "مائة عام من العزلة" خارجة عن الزمن، فهى أمور مؤقتة وغير حقيقية، فالحياة هى عدم معرفة الضرورى، بينما الموت هو الخطوة الأكثر يقيناً فى اتجاه المعرفة، داخل هذين القطبين تدور معظم عناصر الرواية، فمثلاً يموت ميلكياديس الغجرى، ثم يعود للحياة أكثر من مرة لأنه مل العزلة التى يعيش فيها الميتون، باقى الشخصيات تنتظر الموت مثل: ريبيكا وأورسولا وخوسيه أركاديو، كذلك التوأمان اللذان لا يعرف أحد كيف يفرق بينهما، ويموتان فى نفس اللحظة، وفى ختام الرواية تنتهى سلالة بوينديا فى تعبير عن الخضوع للقدر المكتوب، حيث إن كل أحداث ماكوندو وأسرة بوينديا كانت مكتوبة فى كتاب ميلكياديس، إلا أن أحداً لم يستطع حل ألغازه، حتى يتفادى الأخطاء التى تتالت على مدى الرواية، فقط تمكن من ذلك آخر سلالة بوينديا فى نفس اللحظة التى انتهى فيها كل شىء، وانمحت ماكوندو بفعل الرياح الشديدة، وولد آخر سلالة بوينديا وهو يحمل ذيلاً فى مؤخرته استجابة لما هو مكتوب.

لقد اهتمت وسائل الإعلام فى أمريكا اللاتينية ببحث تأثير أعمال هذا الكاتب على باقى أدباء القارة، وهناك من رأى بأن أحداً لم يفلت من ذلك التأثير، وخاصة رواية "مائة عام من العزلة" فنجد مثلاً أدباء مثل إيزابيل الليندى وأوسلار بييترى وأليسير كارديناس وإليسيا يانيس، وغيرهم قد حملت أعمالهم بصمات واضحة من هذه الرواية، التى لا يمكن أن توصف بأنها خيال محض أو تعقيد لبعض رموز وألغاز غير واضحة.

وأخيراً فإن السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: ما هى قيمة أعمال ذلك الأديب بعيداً عن روايته "مائة عام من العزلة"؟، رأيى أن جارسيا ماركيز كرر نفسه، أصبح أسيراً لنفس الموضوع والأسلوب، ففى روايته القصيرة "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، ظل ذلك الكولونيل يكابد الحياة كى يختتم الرواية بقوله: "براز!!"، وفى رواية أخرى "الحب فى زمن الكوليرا" يختتمها بتلك العبارة "كنت أملك الإجابة الجاهزة منذ ثلاثة وخمسين عاما وستة أشهر وإحدى عشر يوماً بلياليهم.. هم كل حياتى".

أود أن أذكر أن تلك "الواقعية الساحرة" قد وجدت مكانها فى العديد من كتابات بعض أدباء أمريكا اللاتينية قبل رواية "مائة عام من العزلة" بزمن بعيد، وقد قرأت نفس "الروح" فى أعمال اثنين من أشهر أدباء الإكوادور أحيليرا مالتا وخوسيه دى لاكوادرا، ومع ذلك فإنه من بين العديد من الروايات التى قرأتها، فإن "مائة عام من العزلة" قد أحدثت أثراً خاصاً سواء فى خيالها غير المحدود أو فى واقعها المحسوس بشدة فى كثير من دول أمريكا اللاتينية التى زرتها.

وتبقى كلمة أخيرة، وهى أن الأدب كلما تعمق فى جذوره الثقافية المحلية، كلما صعد إلى ذروة العالمية، تلك حقيقة جسدتها رواية "مائة عام من العزلة".

• عضو اتحاد الكتاب المصرى









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة