مرت 58 سنة على حركة الضباط الأحرار، أو الانقلاب العسكرى أو ثورة يوليو، "سمها ما شئت"، وكنت وقتها شابا أصدق مايقال ويشاع عن الفساد فى ذلك الوقت، فساد القصر، وفساد الإقطاع، وفساد سيطرة رأس المال على الحكم، وكنت أتوسل إلى الله، وأتوق لمشاهدة أى عمل سياسى يخلص مصر ومستقبل شباب مصر من الأخطبوط الراسخ على قلب الشعب المصري، بالإضافة إلى الاستعمار العسكرى الأجنبى الذى كان يحتل منطقة القناة، بالإضاقة إلى الصراع الدائر بين قوى سياسية يسيطر على جانب منها، الاحتلال الإنجليزى، ويسيطر على الجانب الآخر، قوى كثيرة طامعة فى حكم مصر ومنها حركة الإخوان المسلمين التى حظيت بتأييد ساذج فى ذلك الوقت من معظم مسلمى الشعب المصرى المتدين، الذى كان لا يعلم عن خبايا السياسة شيئاً، وكانت هناك بعض الأحزاب أهمها حزب الوفد، التى تتصارع وتتطاحن فى صراع على احتلال كرسى الحكم، وفى ذلك الوقت كان القصر يقف ضد الاستعمار الإنجليزى.
فى ذلك الوقت كان الشعب المصرى شعبا ديمقراطيا مسالما يبحث عن حياة هادئة مستقرة بحسن نيته المعهودة، ولكنه كان شعبا يحمل بين جنباته رغبة عارمة لمقاومة الاستعمار وكان يسارع شيوخه قبل شبابه للانضمام إلى أى أصوات أو تنظيمات تطالب أو تعمل على مقاومة الاستعمار الإنجليزى، فتكونت الحركات المختلفة المتعددة تحت شعار مقاومة الاستعمار الإنجليزى، وبهذا كان شعب مصر شعباً ثوريا يرفض الاستعمار العسكرى الأجنبى، ويقوم بمقاومة عنيفة لتحرير أرضه، ونظرا لطيبة الشعب المصرى المعروفة فقد كان ومازال يثق فى كل من ادعى أو يدعى الدفاع عن مصالحه وحريته، وقتها نشطت وسائل الدعاية المختلفة فى إقناع الراى العام المصرى بوجود فساد لابد من إزالته وهو ما كنا نؤيده جميعاً تصديقا لوسائل الدعاية تلك، وفجأة وفى يوم 23 يوليو سنة 1952 فوجئنا بالإذاعة المصرية تذيع خبر قيام حركة الضباط الأحرار بالإطاحة بالملك والقصر، ثم بعد ذلك أعلنت عن أهدافها كثورة مصرية وليس كحركة ضباط من القوات المسلحة المصرية، كنا أو كانت الغالبية العظمى من الشعب المصرى وقتها لا تعلم شيئا عن دور الاستعمار الإنجليزى والأوربى ولا دور الإخوان المسلمين فى قيام تلك الحركة التى سميت بعد ذلك بالثورة، ولكن بعد أكثر من أربعين عاما، ومن مذكرات بعض كبار رجال الإخوان المسلمين وبعض المؤرخين اتضح لنا ما تم خلف الكواليس منذ قيام تلك الحركة.
فقد اتضح لنا أن جميع مشاكل الشعب المصرى الآن إنما هى من صنع الاستعمار الإنجليزى والأمريكى، خاصة أن ما تم قبل وأثناء وبعد ثورة يوليو فى مصر كان من صنع تلك القوى الاستعمارية وبموافقتها، وقد استخدمت قوى الاستعمار، فيما استخدمت لتحقيق نتائج اليأس الحالية من تجميد الشعب المصرى فى بوتقة تغلى من تأثير التخلف والتخبط السياسى والاقتصادى والثقافى والإدارى وسيلتين محددتين ببراعة منقطعة النظير وهما:
أولها: وسيلة أو "نظرية فرق تسد": ويتضح هذا فى ما حدث بعد قيام الثورة أو الحركة، حيث فرق شيطان الاستعمار بين الضباط الأحرار أنفسهم حينما أوعز إليهم بعزل اللواء محمد نجيب رئيس أول جمهورية مصرية فى التاريخ، وتنصيب الرئيس جمال عبد الناصر بدلا منه، لأسباب كثيرة أهمها أنه يتمتع بكاريزمية أو شخصية ملهمة جذابة مؤثرة يمكنها السيطرة على الشعب، وهو ما يمكن الاستعمار أيضا من السيطرة على الشعب المصرى بالكامل عن طريقه بدون استخدام قوات إنجليزية تتعرض للمقاومة الشرسة المصرية يقتل أفرادها كل يوم، وذلك تمهيدا للسيطرة الكاملة على الشعب.
وبدأ جمال عبد الناصر فى محاربة الإخوان المسلمين شركائه فى جميع الخطوات السابقة بوسائل متعددة كان أخطرها وسائل التعذيب المختلفة وتطبيق مبدأ أو "نظرية فرق تسد" التى تسببت فى قصص كثيرة من الغدر بين قيادات الإخوان المسلمين، "وكانت تلك من الأخطاء القاتلة للإخوان المسلمين"، وفر من فر منهم إلى السعودية مما تسبب فى الكثير من المشاكل لمصر من السعودية وملوك السعودية، الذين كانوا يدعمونهم بقوة، وبهذا يكون الإنجليز قد تخلصوا من الإخوان المسلمين بالرغم من أى اتفاقات كانت بينهم قبل القيام بالثورة، أو الانقلاب، وإلى هنا نجحت خطة الاستعمار الإنجليزى باقتدار فى تطبيق "فرق تسد" بين عبد الناصر ومحمد نجيب ثم بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين، مما جعل قيادات الإخوان المسلمين يعتبرون الشعب المصرى كله عدوا للإخوان المسلمين، وأصبح المشهد العام وجود سلطة مصرية تركز طاقتها فى مطاردة الإخوان المسلمين، وعلى الجانب الآخر شعب مصرى ظلم من كل من الإخوان المسلمين ومن رجال الثورة ومن الاستعمار الإنجليزى الذى كان يستهدفه منذ قرون، ولم يعد أمام الاستعمار إلا الضباط الأحرار ونجح الاستعمار فى التفريق بين عبد الناصر ومن تبقى من زملائه من الضباط الأحرار إلا القليل، ولم يتبق إلا احتواء الشعب المصرى العدو الأول للاستعمار، وهنا جاء دور الضفدعة أو نظرية أو مفهوم الضفدعة.
وفكرة مفهوم أو نظرية الضفدعة كما يلى: أنك إذا ألقيت بضفدعة حية فى إناء به ماء يغلى فإنها تقفز بسرعة خارج الإناء هروبا من الماء المغلى ومن الموت، وهذا كان حال الشعب المصرى قبل الحركة أو الثورة المصرية" وكان الشعب المصرى دائم المقاومة النشيطة للمستعمر الأجنبى، أما إذا وضعت الضفدعة فى الإناء نفسه وبه ماء دافئ، فإن الضفدعة ستركن وترغب فى الاستمرار فى الماء الدافئ، فإذا بدأت إضافة الماء المغلى نقطة نقطة ببطء فإن الضفدعة لن تقفز، وستجد نفسها فى النهاية عاجزة عن فعل شىء حتى الموت.
لقد ورط الاستعمار الإنجليزى جمال عبد الناصر فى عدة حروب لا قبل لمصر بها مثل حرب اليمن وهى إحدى تداعيات العداء بين ملك السعودية وبين جمال عبد الناصر، وكانت السياسة السعودية خاضعة أو ميالة للغرب، وقد كلفت تلك الحرب مصر أموالا تزيد عن طاقتها فأخذت معها الأخضر واليابس، وورطته أيضاً فى وحدة فاشلة مع سوريا، ثم انتهت بالعدوان الثلاثى على مصر لاستنفاد طاقتها ثم انتهت حملة إفلاس مصر، بهزيمة يونيو 1967، وليس هنا مجال للتطرق إلى شرح كوارثها، وفى تلك الظروف اضطر شعب مصر إلى القفز فى الإناء الدافئ الذى أعده الاستعمار للشعب المصرى، وذلك عندما فوض الشعب المصرى جمال عبد الناصر فى جميع أموره الدستورية ليعدل فيها كيفما شاء أملا فى إزالة آثار عدوان 1967.
وأعلن الرئيس شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، هنا وجد الشعب المصرى نفسه فى الماء الدافئ منذ أكثر منذ ذلك الوقت، وبدأ الاستعمار يضيف الماء الساخن إلى الإناء، حيث توالت الأسباب التى مد على أساسها العمل بقانون الطوارئ وتستمر السلطة المطلقة فى يد رئيس الجمهورية، وعلى هذا يصبح الإخوان المسلمين مع الضباط ورجال الثورة أداة فى يد الاستعمار ضاربين عرض الحائط بثقة الشعب المصرى الذى كان قابعا واثقا فى قيادته وأمانتها، فلم تسعف تلك القيادة خبراتها وقدراتها على إنقاذ نفسها ولا إنقاذ الشعب المصرى الذى مازال ينعم بالماء الذى وصل لدرجة الغليان الآن ولم يعد هناك أمل فى إنقاذه إلا بمعجزة من السماء، بعد أن دمر وشوه دستوره عدة مرات ولم يعد صالحا لحكم دولة ديمقراطية محترمة.
وانتهى الأمر الآن بحكم ودستور يركز السلطة المطلقة فى يد الرئيس، وهو شخص واحد يحمل على كتفيه شخصيا تركة لايمكن أن يحملها إنسان مهما كانت قواه العقلية والإدارية والعسكرية، صحيح أن الرئيس مبارك حافظ على استقرار مصر فى خلال فترات حكمه، ولكن الشعب يعيش منعزلاً فى الإناء التى وضعه فيها الاستعمار، وبدأ فى الغليان وستقفز منه الضفدعة (وهى الشعب المصرى هنا) فجأة رغم أنف الاستعمار الذى مازال يتمثل فى دول الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، لأن التاريخ يشهد بأن شعب مصر ليس ضفدعة ولكنه شعب يؤمن بالله وسيقوم بدوره فى الحياة كما أراده له الله سبحانه وتعالى وكما ذكره فى كتابه العزيز.
إن مصر لا تحتاج لزعيم جديد ذى كاريزما مثل عبد الناصر، ولا تحتاج إلى شخص واحد يحكم مصر بالدستور الحالى وإلا ستكون الكارثة الحقيقية وإلا سنعود للفشل وإلى حياة الضفدعة، فمن مخاطر الكاريزما مسألة الديكتاتورية التى شبع الشعب المصرى منها ولا تصلح لإصلاح الموقف، ومصر لا تحتاج لنائب للرئيس لأنه نذير باستمرار نفس الوضع، ولا يهم من يحكم مصر، كشخص بإسمه ولكن لابد لمصر من دستور رئاسى نيابى، يحدد اختصاصات السلطات التى تحكم مصر ويعود الرئيس إلى موقعه كرئيس فقط وليس كصانع سياسة ومتخذ القرار الأوحد، ولا إلى وزراء لا يسألون إلا أمامه فقط فيقومون بإدارة شئونهم الخاصة وزيادة أرصدتهم فى البنوك وملكياتهم للأراضى والإقطاعيات.
إن مصر ومصالح الشعب المصرى تسير عكس عقارب الساعة منذ قيام حركة الضباط "سمها كما شئت"،
إننا نسمع الآن شعارات كثيرة من الحزب الوطنى وغيره من القوى السياسية الضعيفة فى مصر، ولكن المشكلة لن تحل بسخونة الشعارات، ولا ارتفاع الأصوات فى الفضائيات وفى التوك شو التحليلات السياسية الفارغة،
ولكنها بكل هدوء وبساطة تحتاج إلى فكر هادئ يلغى جميع الشعارات المعلنة وكلها كاذبة طنانة للضحك على الشعب القابع فى الإناء الذى فى طريقه إلى درجة الغليان والحريق.
فهل من ضمير سياسى لدى القيادات السياسية لاستدراك الأمر وإخراج الشعب المصرى من الإناء ووضع الأمور فى نصابها ووقف تأثير النظريات الاستعمارية وهى نظرية "فرق تسد"، ونظرية "الضفدعة" وإنقاذ الشعب المصرى.
* دكتوراه فى إدارة الأعمال ورجل أعمال.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة