تغريد تحسين تكتب: الغردقة.. صنع فى الصين

السبت، 31 يوليو 2010 06:20 م
تغريد تحسين تكتب: الغردقة.. صنع فى الصين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ذهبت أنا وأسرتى الصغيرة لقضاء الإجازة الصيفية فى مدينة الغردقة وهى أسبوعا واحد ضمن ثلاثة أسابيع من إجازة زوجى السنوية حيث إننا فى الوقت الحالى نعيش فى دولة قطر.

ولن أتكلم عن الطابع الخاص لهذه المدينة السياحية من جمال البحر وروعته وحتى سحر الليل ونسمات الجو العليلة التى تستنشق معها رائحة خاصة تجعلك تشعر أنك تطير فوق الأرض وتسبح فى السماء وفورا يتوارد فى خيالك طعم العيش فى مصر وأن الغربة مهما كانت فهى تحرمك من دفء المشاعر والتمتع بسحر مصر الخاص، ولكن إياك أن تتخيل ولو للحظات أن هذه الفيمتو ثانية قد تدوم لمدة تجعلك تنسى واقعك الحقيقى، حيث إنك عندما تحيا وتعيش فى أى دولة أخرى فأنت المواطن الثانى وفى بعض اللحظات تشعر أنك الثالث أو أنت غير مرغوب بك نهائيا وعند الرجوع إلى مصر فالشوق للشعور أنك خاص وأنك الأول فى بلدك ينتهى فور وصولك، وهذا ما شعرت به عندما زرنا مكانا جميلا يسمى "الممشى" ولن أخفى عليك أيها القارئ العزيز أن هذا ليس الشعور الوحيد بل للأسف تداخلت بعض المشاعر التى جعلتنى أذرف الدمع... فالممشى هو مكان سياحى متكامل يجعلك تشعر بالفخر حين تطأ قدماك أرضه.. طبعا محلات تتكدس فيها المنتجات الفرعونية بجميع أنواعها ورق بردى، تماثيل فرعونية دقيقة الصنع، منتجات جلدية، كل شىء فرعونى تاريخى، وقلت فى نفسى: أنا مصرية وأفتخر... إقبال سياحى.. وانبهار بحضارتنا و تاريخنا......إلخ ... ولكن هيهات ان يدوم هذا الشعور الساذج للحظات يا قارئى العزيز... ودخلنا فى مول كبير يعج بالمنتجات السياحية والسياح المنبهرين السذج مثلى.. ولفت نظرى شىء هو دقة صنع هذه التماثيل وكيفية إظهار التفاصيل الدقيقة للحلى التى ترتديها أو اللبس وتفاصيله وهالنى أكثر كمية المنتجات الأخرى الفرعونية حتى الأقلام أصبحت فرعونية وأكواب من السيراميك مرسوم عليها رسومات فرعونية تحفة ملونة ودقيقة.. وبدأ الشك يدخل إلى قلبى ما هذه الدقة!!!

وللأسف فلم تمض لحظات حتى جاءتنى الإجابة عبر الأثير من خلال العاملين بهذا الصرح وأكدته الجملة المكتوبة باللغة العربية تحت كل المنتجات "صنع فى الصين" "صنع فى تايلاند" ولك هذا الحوار الذى جعلنى أنفجر ضاحكة ثم أنقلب باكية فى لحظات كالمجانين أو كالأطفال المولودين من بطون أمهاتهم يواجهون الدنيا الغامضة لا يفهمون تارة يضحكون ثم فى نفس اللحظة ينفجرون بالبكاء.

قلت: لوسمحت المحفظة دى جلدها نوعه إيه؟ بس خد بالك أنا مش عايزة كلام سياحى وأسعار سياحية إحنا أكيد بلديات
البائع المصرى الشاب والابتسامة تعلو وجهه من سذاجتى طبعا:
بصراحة الجلد دة مش جلد مضمون وأنصحك متشتريش الحاجات دى مصنوعة فى الصين.
قلت: وسعر التمثال الصغير ده كام؟
البائع : بخمسة عشر جنيها
قلت: دى طبعا أسعار السياح؟
البائع الذى تملكه الغضب نوعا ما بعد هذا السؤال المستفز، كأنه يهمس فى نفسه "أدى عيب المصريين الأسعار":
لآ الأسعار عندنا فيكس؟ (وفيكس تعنى ثابتة للجميع يعنى المصرى زى غيره على أرضه وسط أهله بل بالعكس سيلفظ بعيدا سريعا).

للوهلة الأولى انفجرنا ضاحكين
وللوهلة الثانية والثالثة.. أصابنا الوجوم دون أن نشعر مع استمرارحديثه المستسلم للواقع يصحبه نوع من الفخر الجاهل أو المجبور على أمره وذكرنى بالإعلان التلفزيونى الذى يحث على الصلاة وينتهى بجملة "هذه هى حياتى..." مع الاعتذار للإعلان الجميل قلت فى نفسى يا نهار أسود احنا فى مصيبة ولكنى كساذجة كتمت مشاعرى.

ثم سألت: كل حاجة كل حاجة فى المول دة صنع فى الصين!!!!!!!
أجاب البائع كالأسد الذى أراد أن يقضى على فريسته ويريحها من العذاب: المول ده حضرتك استثمارأساسا صينى وجاءت هذه الكلمات كالضربة القاضية التى أشعرتنى كمن أفاضت روحه ويسير كجثة بين الطرقات.

ألقيت بالمحفظة وأعترف أننى ألقيتها بقوة غضبا.. لم أقصد.. ثم ألقيت نظرة أخرى على المكان... نعم نظرة أخرى بعين أخرى دامعة وبلا روح .... وشعرت أن جسدى أصابه العجز وظهرى انحنى وتثاقلت أرجلى وتباطأت خطواتى واتكأت على ذراع ابنى الذى شعر بحزنى قائلا: مالك يا ماما؟

ثم أجابنى بهدوء الإجابة التى أفاقتنى: متزعليش يا مام .. ما فوانيس رمضان صنع فى الصين؟ أصابه الحق وقلت فى نفسى: نعم لقد قبلنا أن مظاهر احتفالنا الدينى أن تكون صينية الصنع ونقبل الآن أن تكون أيضا حضارتنا التاريخية صنع فى الصين.

ثم تقاتلت الأسئلة فى رأسى كما لو كانت تصر على القضاء على فتكا: ثمانون مليون مصرى يعيش أكثرهم تحت حد الفقر ويعانون من البطالة... لماذا لا يتم استثمارهم فى هذه المشاريع العملاقة؟

خان الخليلى أجمل مكان فى مصر.. كان يمتاز بأعرق الحرف اليدوية الدقيقة.. لماذا تركناها تندثر وتنقرض لماذا لم نعطى لهؤلاء الفنانين القيمة الحقيقية لأبداعتهم ونسمح لهم بتعليم الشباب من خلال مؤسسات تعليمية مجانية تجعلهم أحسن من أى صينى؟

إننا نمتاز بالمهارات اليدوية كصنع السجاد والنقش على النحاس ..أين ذهبت هذه الحرف .....أين نحن متجهون؟؟؟؟ ما هى أهدافنا الاقتصادية والرؤية المستقبلية للثروة البشرية فى مصروكيفية استغلالها ووضعها فى الطريق الصحيح؟

ولن أنهى حديثى بالكلمة التى أكررها والممتلئة باليأس والدمار وتأخذنا للهبوط إلى الهاوية "هى دى مصر يا عبلة" لآ دى مش مصر.... لآ دى عمرها ما هتكون مصر... ثم رددت هذه الكلمة على مسامع أبنائى... كما لو كنت فى نهاية كابوس يطبق على أنفاسى وأنتظر من يخلصنى منه.. وأكملت طريق الممشى شاردة وتخيلت أننى عند نهايته سأرى السماء تسطع بألوان الصواريخ كاتبة "الغردقة صنع فى الصين".





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة