أريد أن أعترف بأن الذى ألهمنى كتابة هذا المقال هو ظاهرة كسوف الشمس، فقد تأملت فى هذه المعجزة الإلهية وقد ملأتنى الدهشة والانبهار بما توحى به من معان كثيرة علمية وفلسفية، وكان أبرز ما استوقفنى هو حقيقة أن الشمس هناك فى عز النهار ولكنها فى نفس الوقت غائبة!!.. وهى غائبة شكلاً ولكنها حاضرة فى الواقع بكل قوة.
دائماً ما كنت أتصور أن الفلسفة هى أسلوب العاجز عن مواجهة الواقع، ومحاولة الهروب من الإجابة بطرح المزيد من الأسئلة، وأعترف بأن ذلك كان تصوراً ساذجاً، وقد زاد يقينى بذلك كلما طعنت فى السن، وعاينت الدنيا وما فيها.
العجز لا يكون دائماً مقصوراً على عدم القدرة فى مواجهة الواقع، بل إنه فى أحيان كثيرة تكون القوة، كل القوة، فى المقدرة على تجاوز هذا الواقع والتطلع إلى ما خلف تلاله وجباله المتجهمة، والوصول بالعقل إلى المدن البيضاء الجميلة، إلى الواقع كما نتمناه وليس كما هو كائن.. أنها بالفعل مقدرة جبارة لا يمكن وصفها بالعجز، فذلك الوصف الأخير لا يقتصر فقط على الحركة المادية، وإنما يشمل أيضاً الإمكانيات الهائلة للعقل كى يبادر ويبتكر وينطلق إلى ما وراء الواقع الملموس.
لقد كان الشيخ أحمد ياسين (مؤسس حماس) خير تجسيد لما أريد، فلم يكن يتحرك فيه سوى عقله، وهو – رحمه الله – قعيد لا يملك تحريك طرف من جسده، ومع ذلك استطاع تجاوز هذا العجز المحدود من خلال قدرته الفائقة أولاً على عدم الاستسلام لهذا القيد المقدور عليه، وثانياً بتجاوز عجز آخر مفروض على الواقع الفلسطينى بإشعال جذوة المقاومة.
لقد كان الرجل رهين العجزين (عجز الجسد وعجز الواقع)، إلا أن إرادته ساعدته على كسر قيود الاثنين، وفك أسر شعب فرضت عليه الظروف أسوأ أنواع الاحتلال التى عرفها العالم، وهذه هى مهمة أولى العزم والأمر بين الأمم، الذين يكتشفون القدرات الكامنة فى مجتمعاتهم، ويسلطون الضوء على إمكانية تجاوز اللحظة الراهنة، ويقدمون الحلول المبتكرة، ويأخذون المبادرة باعتبارهم القدوة والمثل.
لذلك فرب غائب حاضر أشد حضوراً من الحاضرين، لأن الأفكار والمبادئ تخلد وتعيش، تصبح لها حيويتها الذاتية التى تدفع فى اتجاه الأهداف المنشودة، بينما يزول الأفراد المتكلسون المتصنمون حيث تنحتهم رياح الزمن فلا يبقى منهم ذكرى ولا أثر، مهما بلغت قوتهم المادية.
هناك نوع من الحضور قد يفضله الغياب، وذلك حين يكون الحضور مشاركة فى جريمة أو صمت عليها، حين يكون الحضور شهادة آثمة بالزور تبرئ الجانى وتتهم الضحية، ففى كل هذه الحالات، قد يكون الغياب أكثر فضلاً وشرفاً، مع الاكتفاء بدور الشيطان الأخر .
وأحياناً أخرى يكون الحضور مشابه لعمليات تحضير الأرواح، حيث يتم استدعاء المجهول كى ينصحنا بمعلوم قد نراه أو لا نراه، وهو نوع من الدجل والتضليل يكشف عن درجة متدنية من الوعى، ودرجة سخيفة من الهروب، فهو اختفاء من الواقع المعاش بحثاً عن واقع أسطورى تكتنفه أدخنة مباخر الجهل والكسل واللا مبالاة.
وهناك نوع ثالث من الحضور يشبه الثور فى حلبة مصارعة الثيران، فهو حضور غبى يندفع كى يبتلع الطعم والطعنة فى آن واحد، ويدور فى لهاث زائغ بلا هدف بقوة الاندفاع التى تورده موارد التهلكة، ولا يبتعد عنه كثيراً حضور آخر يشبه حضور الحمار، المستكين دائماً، الصبور بلا حدود، الذى يتحمل الإهانة والضربات دون أن ينفعل ولو مرة واحدة كى يرفس أو يعض أو حتى يهرب من ساحة الإذلال، فهو الحضور الحمورى المصمم على حموريته، المتمسك بحيزه رغم أن وجوده قد هان إلى درجة الانعدام.
والغياب بدوره أنواع مختلفة، فهناك الغياب المخدر بشكل عمدى، فهو يتم عن طريق التعاطى العمدى، ورغم أنه يتجاوز الواقع إلا أنه تجاوز لا إرادى، يتحول تدريجياً إلى إدمان للغياب، إيثاراً للسلامة، فالوحش أمامه لكنه لا يراه، أنه أسير تهيؤاته المتسربلة فى أدخنة الوهم الزرقاء.
وهناك غياب واعى ومحسوب، اتقاء لشر داهم وترتيباً لحركة قادمة، وهذا الغياب قد يكون نوعاً من المناورة المطلوبة، ولكن ينبغى أن يكون مؤقتاً بأسبابه، وتمهيداً للحضور من زاوية أخرى.
أما أغرب أنواع الغياب فهو ذلك الذى لا يستمد من مخدر أو وعى، هو ذلك الغياب غير المبرر ولا يوجد أى تفسير عقلى له، فهو غياب يشبه التائه الذى لا يعرف أنه تائه، تدفعه الرياح شرقاً فيذهب، ثم غرباً فيروح، وإذا لم يحركه شىء فهو يدور حول نفسه وكأنه يبحث عن أى ريح طيبة أو خبيثة كى تدفعه إلى اتجاه.
وهناك أخيراً ذلك الغائب المغيب والمغيب (بفتح الياء المشددة وكسرها)، فهو لا يغيب اختياراً وإنما قهراً وإجباراً، ثم أنه يستخدم فى تغييب آخرين، وذلك أشد أنواع الغياب شراً وخداعاً، فالغائب هنا لا يسلم بداهة بأنه مغيب، وهو يدافع عن ذلك الغياب ويدفع الآخرين للاقتناع بحكمة ذلك.
أن مغامرة القمر بالدخول على مدار الأرض والشمس هى آية كونية ولكنها لا تنفى حقيقة أن الشمس هناك فى الأفق، فالضوء هناك وإن اقتصر على هالة كأسورة، يشى بوجودها الآسر، وحرارتها نافذة، وإن انخفضت، تبعث فى الأوصال دفء الحياة، ثم إنه غياب محدود مؤقت مقدور يؤكد فى ذاته حقيقة الحضور.
ولا شك أن ذلك يختلف بشكل جذرى عن حضور لا يشع ولا يدفئ، وعن غياب يبدو كموت سريرى طويل، وقد كان أسلافنا يحاولون تقليد الطبيعة أو تفسيرها، وبالطبع حاول بعضهم وحتى اليوم محاولة تحديها والخروج على نواميسها المنتظمة، ولا أدرى كيف يمكن أن نستنتج شيئاً فى علم السياسة من ظاهرة الكسوف؟، لقد ظنت طفلتى مثلاً أن "الكسوف" مشتق من الخجل، وسألتنى مما تخجل الشمس؟!، ولعل هذا السؤال البرىء يتيح استخلاصا سياسياً ما، ربما يكون مخرجاً سهلاً من تفصيلات معقدة للحال، فالشمس أو الحقيقة مكسوفة، تتوارى خجلاً واستحياءً فى زمن فقد حياءه، وقد قال من قبلنا إن "اللى اختشوا ماتوا".!
إلا أن ذلك يعد تبسيطاً مخلاً لظاهرة شامخة، وتحدياً لمعلوم لا يمكن ستره أو التمويه عليه، وينبغى لهذه الطفلة البريئة ولكل جيلها والأجيال التالية لها أن يعرفوا الحقيقة العلمية التى لا مراء فيها، وأن نصدقهم القول حتى ولو كشف ذلك عن العورات وأورى بالخبء من العجز المزمن، فالشمس هناك دائماً حتى إن توارت خلف كسوف مؤقت أو غروب معلوم، ولابد أن تشرق مهما بالغنا فى ادعاء الغياب وإدمان التغييب، ولا بد أن طفلاً بين آلاف الأطفال الذين تجمعوا كى يرقبوا بدهشة هذه الظاهرة الكونية سوف يخوض مغامرة اجتياز عجز الجسد بمبادرة العقل الجبارة إلى اللا حدود، ويدوس بقوة الإرادة جدران الواقع المصمتة كى يصل ونصل معه إلى المدن البيضاء الجميلة التى غابت عن أنظارنا أو غيبتها سنوات الاستسلام لعجز الإرادة عن التفكير والمبادرة والفعل.
وعندما يحل موعد الكسوف التالى للشمس فوق الأرض، سوف تلمع آلاف النجوم الزاهرة فى فضائنا، وعندها سيكون أحد أحفادنا فوق سطح القمر يتطلع إلى شمس لا تغيب...
أقول قولى هذا، وأستغفر الله لى ولكم...
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة