عنوان هذا المقال ليس إلا بيتاً من قصيدة كتبتها فى نهاية السبعينات من القرن الماضى، عندما كانت غدة الإبداع لا تزال قادرة على الإفراز.. ولقد ألح على هذا البيت مؤخراً وكأنه يطاردنى أو أطارده، أحاول أن أكتشف العلاقة بين نهاية السبعينات وبداية الألفية الثالثة، وراعنى صدق التنبؤ الذى حملته تلك الكلمات القديمة.. حيث أصبح "المجد" بالفعل لمن "يعهر" أكثر.
وقد لا يرى هذا المقال النور بسبب احتوائه على هذه الكلمة المحرمة "العهر"، التى يمكن أن تصدم عين القارئ وتجرح مشاعره المرهفة، علماً بأنها موجودة لفظاً ومعنى حتى فى الكتب المقدسة، ورغم حقيقة أن مشاعر القارئ قد تبلدت من كثرة ما يرى ويسمع، فهل تعد هذه الكلمة مثلاً أشد قسوة من الذل والمهانة والضياع والفساد؟ ما هو أثرها فى زمن الموت والحصار والاحتلال؟
إن الحواجز الأخلاقية سقطت كلها، فأين كان شرف الإنسان عندما كانت جثث النساء عارية فى العراء متناثرة فى شوارع العراق وفلسطين؟ ما الذى يمكن أن يتباهى به الشاب العربى أمام معشوقة القلب؟.. العهر أبسط وقعاً من أثر كل المعانى السابقة، وأشك أن اللفظ أو المعنى أو حتى الفعل ذاته قد يصدم أى شعور.
وعلى أى حال هذا كله ليس بيت القصيد ، فمن المؤكد أننى عندما حملت القلم لم أكن أريد إعادة طرح البديهيات، ولا يمكن أن يكون هذا البيت قد طاردنى أو طاردته لمجرد أن أناقش مدى أخلاقية استخدام لفظ بعينه، فحين يصبح العار أسلوب حياة تفقد الكلمات حياءها، والأخلاق فى منزل للدعارة تبدو مستهجنة أو – على الأقل – مجرد نكتة ساخرة على ألسنة طالبى المتعة.
أصارحكم بالقول أننى أردت أن أكون أقل قسوة من الواقع، ورغم أنه لم يكن رحيماً أو عادلاً فقد كنت أفتش فيه دائماً عن وردة تتفتح، شروق يطل من فوق أكتاف الأفق، وكنت أزيغ عينى بعيداً عن القبح، أرفع صوت المذياع حتى يعلو صوت الألحان فوق صوت القنابل وصرخات الضحايا.. كنت أرنو إلى الحب والسلام والأمان، وأحلم بغد أفضل من أجل طفلتى وكل أطفال العالم.
تبين لى وأنا أراجع أوراقى القديمة أن المعانى الجميلة والتعبيرات الساحرة والآمال الملونة بدأت تشحب تدريجياً وتتراجع شيئاً فشيئاً منذ منتصف السبعينات من القرن الماضى، وهى بالمناسبة فترة منتصف عشرينات عمرى، وكأننى كنت فى سفينة رائعة تمخر بى بحار السحر والجمال، حتى بدأت فى الغرق تدريجياً، ولم تعد المسألة هى الاستمتاع بقدر ما هى الصراع من أجل التشبث بالحياة ، لم يعد هناك رونق أو مذاق بل عمر يتبخر فى الهواء.
بعد اغتيال إسرائيل لعدد من رموز المقاومة، وقف قادة حماس يشكون بمرارة من الدور المخرب للعملاء، بينما تتردد الشكوى نفسها بدرجة أخرى فى العراق، وتصعد كلمة "الخيانة" كى تحتل مكاناً بارزاً على مسرح الأحداث، ولكن لم يعد لها نفس الوقع القديم، فالتعامل مع العدو أصبح يطلق عليه "واقعية سياسية"، وبيع أحلام الوطن أصبح يطلق عليه "عصرنة وتمدين"، والصمت على أبشع الجرائم لم يعد فى ذاته جريمة، بل فضيلة يتباهى بها أصحابها باعتبارها قمة العقل، والفساد أصبح السلم الواصل إلى قمة الهرم الاجتماعى، والقائمة لا تنتهى.
ما هو الفارق بين من تبيع جسدها لقاء المال، ومن يبيع عقله لنفس الهدف؟.. من المؤكد أن خطيئة الأخير أكبر وأفدح، لأن عهر الجسد مهما شاع فأنه محدود فى دائرة ضيقة، أما عهر العقل فأنه ينتشر إنتشار النار فى الهشيم، ويمتد أثره السلبى من جيل إلى جيل، لذلك فإن من "يسن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من أتبعها إلى يوم الدين"، وخطورة الأفكار العاهرة أنها تصدر عن أشخاص لامعين أو تم تلميعهم، وكلما زاد حماسهم لتلك الأفكار إزدادت مكانتهم وسلطتهم على العقول، بينما الواقع الكئيب يمنحهم مزيداً من المصداقية، وفى الظلام تصعب رؤية الخفافيش.
أصبح "المجد" بالفعل "لمن يعهر أكثر"، كما تنبأ شاب فى العشرينات من عمره قبل ثلاثة عقود ونيف، أصبح هؤلاء القتلة القوادون المنافقون الفاسدون المفسدون هم رموز المجتمعات الذين يشار إليهم بالبنان، يمشون مرحاً فوق أرض مهدها لهم الخوف والفقر وميراث سلبى طويل، لا يتحرجون من الإفصاح بعهرهم، بل يتباهون به وينظرون له، بينما عامة الناس قد أذلتهم الحاجة وقهرهم الخوف لا يملكون سوى الانقياد لهم كقطيع يساق إلى مذبحه، فالحرص قد أذل أعناق الرجال، بينما فكر العهر قد لوث عقولهم.
فإذا هب نفر ثائراً أو صاح صائح محذراً، فهم ليسوا إلا مجانين أو انتحاريين أو غير واقعيين، ومن لم يرتدع بهذه الأوصاف الجاهزة فالزنازين فى الانتظار والجلادون يتحرقون شوقاً، والاتهامات معدة سلفاً، وهكذا أصبحت نصيحة الأم والأب للأولاد ألا ينخرطا فى الحياة العامة، وأن يتجنبوا قدر الإمكان اقتراف جريمة التفكير السياسى، وأن يمشوا جنب الحيط أو فى شق منه إذا أمكن، أصبحنا نسمن أولادنا للذبح كالخراف وقد نزعنا حتى قرونها وحوافرها، أصبح المنهج التربوى تعليماً فى النفاق والوصولية والحداقة، وبعض أصول الفساد والخنوع، فمن تزوج الأم لا يكون عماً فقط وإنما أباً، والباب الذى يجيئك منه الريح سده وأستريح، والعين لا تعلو على الحاجب.. إلخ، هذا الميراث العجيب من تعاليم الذل التى تكسر فى الإنسان فطرته الطبيعية فى الكبرياء والعزة والكرامة.
لذلك فلا أتعجب مثلما يتعجب البعض من سلبية الشارع العربى فى مواجهة الأحداث الجسام التى تواجه الأمة، فلقد تشوهت النفوس وتلوثت العقول بالشكل الذى يتطلب أحقاباً من العمل الجاد كى ينظف تراكمات هذا الميراث المهين، ونستعيد تلك الروح المتألقة الأبية التى ترفض الهوان وتأبى الاستسلام وتنهض فى مواجهة الظلم بغير تردد أو وجل، وهذه الروح موجودة ولكنها مطموسة خلف ركام من طمى السنين وقاذورات فكر العهر، وهى تتجلى من حين لآخر فى بعض المظاهر، فنراها فى عيون أطفال الحجارة فى شوارع فلسطين، نراها فى الصمود الشجاع لفصائل المقاومة فى العراق، نراها فى سطور القابضين على الجمر التى تحاول أن تواجه ملايين من سطور العهر التى تحاصرنا.
قد يستغرق إستعادة هذه الروح زمناً طويلاً، ولكن علينا أن نبدأ، بأن نعلم أطفالنا أن المجد كل المجد لكل من قال كلمة حق فى وجه سلطان جائر، المجد كل المجد لمن سيج بجسده وبأفكاره حول شرف الأرض والعرض والكلمة، ولكل المقاتلين الذين يقدمون حياتهم كى يحيى الوطن، وفى نفس الوقت يجب أن نواجه تلك الفئة الضالة التى تريد أن تكرس العجز والتخاذل والهوان فى أرضنا، تلك الديدان الطفيلية التى تقتات على جثة الوطن، فعلينا أن نفضح فكرهم العارى الذى فقد حياءه، أن نسلط الضوء على خفافيشهم، وأن نحرمهم من مجد أغتصبوه غصباً وفرضوه على الناس فرضاً، حتى يسقطوا فى المكان الوحيد اللائق بهم: "مزبلة التاريخ".
ومثلما كان بيت من قصيدة قديمة هو إلهام هذا المقال، فقد يكون من المناسب أن يكون الشعر أيضاً هو الختام، فقد قال أبو القاسم الشابى: "وللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق"، وأرانى فى غروب العمر استلهم من وجه طفلة فلسطينية بريئة روح الغد الآتى، حين أسمعها تردد فى تصميم خلال جنازة أحد الشهداء: "الانتقام.. الانتقام"، فأعلم أن تلك الجوهرة المطموسة قد بدأت تزيل بعض الركام، وأن المجد للبندقية مهما كانت تأثيرات ترانيم اليائسين، وكأن هتاف تلك الزهرة الفلسطينية يعيدنى دفعة واحدة إلى شباب بعيد، ويرسم نبؤة أخرى لهذا الوطن يكون "المجد" فيها "لمن يعمل أكثر".
عضو اتحاد الكتاب المصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة