لكافكا قصة قصيرة اسمها «أمام القضاء» عن فلاح شاب جاء من مكان بعيد لمقابلة «القانون»، حددوا له مكانا يقف فيه إلى جوار باب فى المحكمة، وقالوا له انتظر دورك، كان يحمل طعامه معه، إلى أن ضرب الشيب رأسه ولم ينادِ عليه أحد، وفى نهاية عمره أشفق عليه حارس وأتى له بكرسى دون ظهر وأجلسه عليه وقال له بصوت عال، لأن الفلاح الذى اقترب الموت منه أصبح لا يسمع: «هنا لا يمكن لأحد أن يدخل، فهذا الباب كان مخصصاً لك وحدك، وسأذهب الآن لأغلقه»، أتذكر هذه القصة - التى ترجمها عن الألمانية الشاعر يسرى خميس ونشرت فى الأهرام قبل خمس سنوات - كثيراً هذه الأيام، وأنا جالس على باب الصحف والفضائيات أنتظر. كثيرون يقولون إن «الواسطة» وتسلل غير المتفوقين إلى السلك القضائى واستثناء أبناء المستشارين هى بعض أسباب تراجع القضاء، وآخرون يؤكدون أن السلطة التنفيذية نجحت فى لى ذراع القضاة لتتمكن أكثر من مصائر الناس، وهناك من يجزم بأن صداماً خفياً بينهم وبين رجال الأعمال، وربما يكون كل هذا صحيحاً، ولكن علينا أن نعرف أن القضاة شريحة من مجتمع يعانى من تناقضات لا حصر لها، وأن نجاتهم بمفردهم يعنى أن خللاً موجوداً، وأن القداسة التى صبغها المجتمع عليهم فيها مبالغة أضرت بالقاضى، لأنه فى النهاية مواطن يقوم بعمله، وليست وظيفته تحقيق العدالة، ولكن تطبيق القانون، الذى ليس بالضرورة أن يكون عادلاً، والمقولة الشائعة «أعطنى قانونا ظالماً وقاضياً عادلاً أضمن لك العدل» هى مقولة غير صحيحة - على حد تعبير المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس نادى القضاة السابق - لأن عدل القاضى يصطدم بتطبيق القانون، وهو ملزم بتطبيقه حتى لو كان جائرا،كما قال المستشار أحمد مكى، نائب رئيس محكمة النقض، فهو لا يحكم طبقا لهواه أو قناعاته، وإلا هدمت فكرة الدولة القانونية، وبما أن القضاء جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، فإنه يعانى ما يعانيه أى مرفق فيه، ونسبة تحقيق العدالة فى القضاء مثلها مثل أى مرفق آخر، سواء التعليم أو الصحة أو غيرهما. القضاة الذين تحدثوا عن أزمات القضاء إلى «الفجر» هذا الأسبوع، أجمعوا على أن القضاة مضطرون إلى تطبيق القانون حتى لو خالفوا ضمائرهم، وهو الأمر الذى جعل المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، يقول إن العدالة فى مصر انخفضت إلى ما دون الـ50%. بينما أكد نائب رئيس محكمة النقض المستشار زغلول البلشى أن العدالة مطبقة بنسبة 99% بالنسبة للقضايا التى تصل إلى المحكمة، وأكد أن تشويه صورة القضاة بدأ بعد فضحهم لعملية تزوير الانتخابات، وهى الذريعة التى أبعدتهم عن الإشراف عليها، وقال أيضا إن رجال الأعمال كانت لهم مصلحة فى إطلاق الشائعات ضد القضاة بعد أن فشلوا فى شرائهم، وإن هذه الشائعات انتشرت بسبب الظروف التى يمر بها القضاة، وقلة عددهم، وضعف رواتبهم، وهجرة الخبرات إلى الدول العربية التى يتقاضى القاضى عندها 15 ضعف ما يتقاضاه فى بلده، فى حين قال رئيس نادى قضاة أسيوط المستشار رفعت السيد إن الرواتب زادت 3000%، وإن صروحاً جديدة شيدت للعدالة تكلفت الملايين، لكنه اعتبر المشكلة تكمن فى منظومة العدالة التى لم تتغير منذ أكثر من مائة عام، فما كان يتم أيام عبدالعزيز باشا فهمى، رئيس محكمة النقض الأسبق، يحدث الآن فى أيام سرى صيام الرئيس الحالى للمحكمة نفسها.
الحرص على القاضى واستقلاله فريضة، وتقديسه فى الاتجاه الآخر كارثة، ومعالجة أزمات القضاء يجب أن تتم ضمن معالجة أزمات المجتمع، لأن مقابلة العدالة تحتاج إلى قوة روحية، لا يقدر عليها القضاة والمحامون وحدهما.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة