د. بليغ حمدى

المتشددون يمتنعون!

الثلاثاء، 20 يوليو 2010 01:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
إنها سنة الحياة، أعنى الموت، نهاية رحلة الإنسانية حينما يتمثلها الفرد سواء أعطى وسجل اسمه فى سجل البشرية وتاريخها، أو كان رجلاً عاديا بسيطا يحلم بامتلاك اسطوانة بوتاجاز، أو بضعة أرغفة من الخبز غير الطازج. ووسط هموم كلا الحالتين رحل فى صمت ودونما ضجيج يسرد المفكر والمجدد الدكتور نصر حامد أبو زيد، غادر مقام الحياة الدنيا إلى حال لا يعلم كنهها سوى الواجد الماجد سبحانه وتعالى، وكانت مغادرته دنيانا التى نكابد سرها وعلانيتها بلا تواجد أو توافد رسمى أو ثقافى وبالطبع جماهيرى.

وربما ترجع حالة الغياب تلك إلى عدة أسباب منها أن الحالة السياسية فى استنفار مستدام بفعل الإضرابات والاعتصامات العمالية والحقوقية، بالإضافة إلى انشغال السياسيين أنفسهم بانتخابات مجلس الشعب المقبلة، وهى انتخابات مصيرية فى تاريخ البرلمان المصرى العريق، أم المثقفون فحدث ولا حرج فحالهم كحال الثقافة فى وطنى الغالى، بينما يقف المواطن فى حيرة من ارتفاع الأسعار التى ستأكل يابس علاوته وأخضرها.

رحل التنويرى والنهضوى نصر أبو زيد بعد معارك لم يخضها بإرادته، بل زج فيها رغم أنفه وبغير قرار منه، لأنه ظن أنه يكتب لأمة تجيد تأويل المكتوب وتحليله واستقراءه، ولأنه حدث نفسه بأمر مفاده أن تلك السطور التى يخطها لوطن يسعى ويطمح للتطوير والتجديد فى فكره وثقافته وأيديولوجيته.

ولعله كان يظن أن عصره الذى يعيش فيه ونحن معه هو عصر التنويريين أمثال رفاعة الطهطاوى والشيخ الإمام محمد عبده والعميد طه حسين، فلربما لم يخبره أننا نعيش زمن الكتابات الساخرة التى تعج بها الصحف الصفراء والبيضاء والحمراء، وزمن أغانى الكينج كونج والحجرين على الشيشة، وكافة الظواهر العجيبة التى تقوض ثقافتنا شيئاً فشيئا.

رحل المفكر الكبير نصر حامد أبى زيد بعد محاولات جاهدة فى إعلاء قيم التنوير الفكرى رغم تهديدات وقمع المتشددين، الذين لا يفطنون فعل التفكير والتأويل والاجتهاد، لقد رحل نصر أبو زيد قبل يوم موته حينما دعته ظروف الظلام الفكرى إلى الهجرة الإجبارية خارج القطر المصرى، مصر التى كانت يوماً ما ملاذا آمناً للفكر والتنوير والارتقاء العقلى، بل إن مصر لمن لم يعى تاريخها التنويرى كانت محطة كل مهاجر بفكره وعقله مند فجر التاريخ الإنسانى.

وكلما حاولت استرجاع كتابات هدا المفكر الكبير انتابتنى حالات متعددة من الضيق والضجر مثل الحالة التى كانت تصيبنى وأنا أقرأ لجمال حمدان الذى مات حباً وولهاً فى مصر المحروسة.

ولك أن تطالع عناوين الكتابات الاجتهادية للمفكر الكبير نصر حامد مثل تأويل القرآن، لتدرك ما كان يصبو إليه هدا الرجل رغم طيور وخفافيش الظلام التى كانت قابعة فى زمنه ومازالت مستمرة حتى الآن، والحرب بينه وبين هؤلاء الخفافيش بلغت ذروتها حينما حرم من الترقية الأكاديمية الجامعية مرة، وحرم من دفء الوطن وضجيجه مرة أخرى.

ولماذا واجهت أفكاره التنويرية هذه الحملة الشرسة؟ الإجابة ببساطة أننا فى هوس مستمر ومستدام نحو الارتكان لسلبية العقل وعدم إعماله، بل إن منا من قابلته مؤخرا فى الجامعة الأمريكية وكنا بصدد الحديث عن وفاة نصر حامد، وأنا على علم ويقين بأن هدا الرجل هو من المتعلمين الأكفاء لكننى وجدته يسألنى فى حدة: أنت تحب نصر حامد؟ وكأننى أقترف ذنبا شنيعا كشرب الخمر أو لعب الميسر.

وهكذا تحول بعضنا إلى مجرد مكبرات صوتية كبيرة لما يردد شيوخ وأساطين الفضائيات الفراغية، لا نعى ما نردده، ولا نفطن لأغراض وأهواء هؤلاء المأجورين، وأنا أدعو القارئ أن يقرأ ما سطره المفكر نصر حامد أبو زيد دون توجيه منى نحو التعاطف مع كتاباته، فقط لمجرد معرفة هل كان أساطين المنابر والفضائيات على حق حينما قادوا تلك الحملة الشرسة نحوه، أم أنهم أخطأوا كثيراً وتجاوزوا فى هجومهم على الرجل.

والمدهش أن بعض الأقلام بعد وفاته راحت تدعى أنها فهمت النصوص والمؤلفات التى بذل عمره فى اجتهادها، بل لو كان بيننا الآن لفرح بعض الوقت أن الناس بدأت فى فعل التأويل والتحليل والاستقراء، لكن هذه الأقلام ذهبت بعيداً عن فكر الرجل الذى طالما حاول أن يفرق بين النص الدينى المقدس، والنص الدينى وبوصفه خطاباً لغوياً يمكن التعريض له بالتحليل والتأويل والنقد أيضاً.

فالنص الأول الذى أشار إليه هو القرآن الكريم الذى لا يفهم إلا فى سياقه وموضوعاته التاريخية، ونصوصه مقدسة لا تقبل المعالجة والافتراء وإن قبلت التفسير فى حدود النص أيضاً. أما النص الدينى وهو ما سطره القدماء فما هى إلا محاولات اجتهادية من المفترض أنها تتعرض للخطأ فى المعالجة والعرض، وهو ما أكده كثيراً المفكر نصر حامد أبو زيد.

ولنا أن نلفت النظر إلى أن ما أشار إليه الدكتور نصر حامد أبو زيد من ضرورة التحرر من قمع النصوص الدينية فُهم خطأً، وظلم الرجل فى تأويل وتحريف مقصده واجتهاده، وعليك أن تتحرى الصدق فيما ينقل إليك من أخبار ومعلومات عن الرجل، فلقد أشار فى كتابه "تأويل القرآن" إلى ضرورة التحرر من كل سلطة ـ وهو يشير إلى التفسيرات الافتراضية للقرآن والتى أصبحت بعد ذلك قواعد فقهية خاصة ـ تحاول أن تقمع حرية العقل والفرد.

وأخيراً ستظل مصر المحروسة تفقد رجالاتها التنويريين واحداً تلو الآخر، وبعضنا يهرول نحو بقاع النفط واللؤلؤ، والبعض الآخر أصبح أسيراً لدى نجوم الفضائيات، والبعض الثالث بدلاً من أن يمارس دوره التنويرى نحو أبناء عمومته راح ينقب عن نقائص غيره، والأغلبية لا تهمهم من الأساس الثقافة والتنوير ونهضة الأمم، بل شغلهم الشاغل التقاط المسامير وأعقاب السجائر المتناثرة داخل رغيف الخبز المطور.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة