أرض النيل.. أحزان "إيزيس"، وخيانة "ست"، وروح "حورس" المنتقم.. قلب أوهنته أدخنة "مارلبورو"، وتقلبات الناس والأحزان.
ليست هناك - كالعادة - خطة محددة لما أريد أن أكتب.. كنت أتابع بعض لقطات إخبارية من حاضرة الدنيا وكعبة الطامحين إلى ملذاتها وسطوتها: "واشنجتن"، طيب الله ثراها، وبل أروقة بيتها الأبيض الطاهر المعمور..
تذكرت بعض الحوارات فى أمسيات لا تنسى فى تلك المدينة، أدركت أن الزمان يوغل فى التلاشى خلف جبال وتلال من الأحداث المتراكمة.
أجدير بنا أن نهرب من التاريخ الذى قال عنه "فوكو ياما" أنه انتهى؟، أم أننا نتوارى تقية خلف أستار واقعية؟، أم أن الخلاص يتمثل فى إنكار المشهود وتمثل الحلم؟.. أين الموقع فى تلك التضاريس المختلة، إن أنت تمسكت بعقلك هويت، وإن تخليت عنه انتهيت؟.
لا جرم أن كل إنسان هو وريث خطاياه وأفكاره، ولكن المأساة أن يرث خطايا وأفكار الآخرين، ويورثها لأجيال قادمة، وكلما تم الإيغال فى المسير ازدادت ورطة التيه، وأطبقت فيافى الضياع بغير شفقة.
هل أصبحت الكتابة نوعاً من العقاقير المهدئة؟، أما أنها بمثابة شهادات على عصر يحرص الكتاب على أن يخلفوها لأجيال آتية قد تقرأ، وربما فهمت أو فسرت الأحاجى، ربما التمست عذراً، أو.. ربما أخذت منها بقبس.
لم يصدق أبناء القبيلة صرخة "زرقاء اليمامة" فلقد كانت "مريضة" ببعد النظر فاتهمها قصار النظر بالخبل والجنون، وقال "موسى": إنى آنست ناراً .. ولكنهم قالوا له: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون"، ومع ذلك فقد تمسكوا بوعد هذا الرب: "بل يكون" إسرائيل "اسمك، ولك ولنسلك من بعدك أهب هذه الأرض من نهر النيل إلى الفرات"، وقال "كارتر" للرئيس السادات: "أعتمد عليك اعتماداً كاملاً فى التوصل إلى اتفاق.. وأصدقه الرئيس الوعد"، ولكن كارتر - فى مذكراته - حرص أن يوضح أنه كان يتفاوض مع الرئيس السادات فى طرف، وشعب إسرائيل فى الطرف الآخر.
فى أى كتاب من كتب أنبياء بنى إسرائيل سوف يدرج اسم هنرى كيسنجر؟؟.. لا شك أن "مناحم بيجين" سوف يحتل مكانة بارزة، وكذلك بعض أولياء السياسة الصالحين الطيبين فى الجانب العربى.. طوبى لمن ساهم فى حل عقدة "الماسادا"، وألف طوبى لمن غسل جرائم النازية تجاه أبناء العمومة خاصة، ومليون طوبة إلى رأس كل من ساهم فى صنع سياسة الحمام (أن تصر على أنك حمامة فى زمن الصقور).
خزعبلات..؟؟.. نعم.. ولكنها ذات معنى، لابد أن لها معنى، فهى لا تهبط إلى الرأس إلا من وقائع حدثت، وهى لا تدين أحداً ولا تغفر لأحد فى نفس الوقت، وإنما تتقلص وتفرز كيفما اتفق ما يتجمع فى دمل الثقافة، صديداً أو دماً أو دموعاً، فهى أوراق عمر تنطوى، ربما قرأتها "ميسرة".. نعم.. تلك الطفلة التى تصر على أن تمزق أوراق أبيها كى تثبت له أنها تريد أن تقرأ وتكتب شيئاً آخر مختلفًا.
ومن عجب أن أصابعها الصغيرة امتدت كى تمزق صفحات "الشرق الأوسط" من مذكرات "هنرى كيسنجر" سنوات البيت الأبيض .. طفرت الدمعات فى عين أبيها وهو يرى فى عينيها نفس النظرة التى كانت "زرقاء اليمامة" تمدها إلى خلف الآكام… يا طفلتى ستعانين معاناة أبيك، فاقرئى قبل أن تندفعى فى مغامرة الحياة، اقرئى أوراق أبيك، ففى خزعبلاتها وقائع يجب أن تدركيها، وشهادة آثر قبل أن يرحل أن يتركها لك.
إذا كانت التكنولوجيا هى تطبيق العلم على الحياة فإن "علم السياسة" لن يكون ذا فائدة دون أن يطبق على الحياة، فالنظريات مهما كانت قيمتها الفكرية لا تحيى إلا إذا وجدت إطاراً عملياً مفيداً فى حياة البشر، لذلك فإن أولئك الذين يتبوءون مقاعد الآلهة كى يقذفوا إلينا من فوق سمواتهم الممتنعة بآرائهم ونبوآتهم المطلقة السرمدية، لا يزيد دورهم فى تاريخ البشرية عن دور قشر اللب بعد التسلى بقزقزته!.
لن يعجز أحد فى الحصول على أمتع الكتب عن "الديمقراطية"، و"تنظيم الأحزاب"، و"تداول السلطة"، و"الانتخابات"، و… إلخ، كما لن يكون عسيراً أن نقرأ عن انتقادات لكل ذلك.. إلا أن كل ذلك لن يكون إلا فى نقل أمين لنظريات كتبها آخرون، وتجارب خاضتها شعوب أخرى، ولسوف نجد الكاتب الحاقد أبداً حتى على نفسه ينتقد تجربة الديمقراطية فى بوركينا فاسو، وكاتب آخر لوذعى يشرح تجربة تداول السلطة فى جزر القمر، بل وربما تحدث أحد عن مساوئ نظام الحكم فى.. مملكة البحار!!..
فالأمور كلها طبقاً لكتابنا – حكومة ومعارضة – ليس أجمل ولا أروع!!.. وهنا أتحدث فقط عن النظام السياسى، لأن الأقلام تحولت إلى سكاكين لتمزيق بعضها البعض وتصفية حسابات شخصية وأيديولوجية تستعصى على الحصر، فهناك جرأة أو اجتراء غير عادى فى مهاجمة الأشخاص أياً كانت مواقعهم، والمصيبة أنهم يعتبرون ذلك أروع تعبير عن "الديمقراطية"، وأغلب المهاجمين يرصدون اتجاه الريح بدقة، ولا يصوبون سهامهم إلا على من يدركون أنه بغير غطاء أو درع يحميه، أو يتخيل – ذوى النية الحسنة منهم – أن مهاجمة رموز نظام تعنى مهاجمة النظام نفسه، فلا غضاضة أن تنقض الأقلام من اليمين واليسار على وزير منهك، لتتصيد له تصريحاً أو تلميحاً أو تصرفاً شخصياً، ثم تنهشه نهش السباع الجائعة، ولا ترتاح إلا إذا خرج فى التشكيل الوزارى الجديد، فتهلل لانتصار الحق ورسوخ الديمقراطية، أو تكون الفريسة رجل غادر منصبه، فلا يكتفون بأن الأضواء قد أنسحبت عنه، أو ربما لهذا السبب، فهم يفضلون الضرب فى الظلام أو فى الميت.
وتبرز شجاعة الأقلام وتتجلى الحكمة بأثر رجعى، ويقفزون بسطورهم فى كل مكان يتحدثون عن وقوفهم ضد هذا المسئول السابق إبان سلطته دون أن يشرحوا أو يوضحوا لأحد أين كان هذا الوقوف؟، ربما كان وقوفهم أمام باب مكتبه التماســاً للحظوة أو للخدمة!!.
والناس تتسلى.. فبعض ما يكتب مسلى بالفعل، وخاصة لمن أحنت ظهورهم لعنة الحاجة وذل الطلب، وهى تسرية لمن عجز عن تحقيق شىء فى حياته، فهو سوف يسجد لله شاكراً أنه لم ينل مركزاً ولم يتول مسئولية، وبالطبع يترك ذلك أثره على الشباب الطالع، حيث يصبح التهرب من أى مسئولية صفة حميدة وقدوة تحتذى.
كل هذا معلوم ومفهوم، ولكن أن يعتبره أحد سياسة أو مشاركة فيها، فتلك مصيبة أشد، لأن الاسم الحقيقى لما تقدم هو "الهروب من السياسة"، هو مجرد التوارى خلف ورقة من التوت، إلا أن العرى واضح وفاضح.
دعونا نسأل سؤالاً حقيقياً: أين هى الأحزاب السياسية المصرية اليوم؟، ما أثرها فى المجتمع، فى الفكر السياسى، فى النظام السياسى؟.. إن مصر تكاد تنفرد بتجربة فريدة فى العمل السياسى، وهى تجربة الحزب / الصحيفة!! .. فلا وجود للحزب خارج صحيفته، بل ولا وجود له أحيان كثيرة حتى فى صحيفته، ولا وجود لصحيفة خارج حزب، والمسائل تبدو مختلطة، فمن يزعم احتراف السياسة لا يمارسها إلا من خلال مقالات صحفية، ومن يزعم احتراف الصحافة لا يجد فى هذه الحرفة سوى السياسة، حتى لقد تبدو الحرفتان حرفة من لا حرفة له!!.
أن التاريخ السياسى المصرى يقدم لنا صوراً لامعة لبعض أعضاء أحزاب ما قبل الثورة، بل لحركة تلك الأحزاب وتأثيرها وتأثرها بالقواعد الشعبية، رغم أن تلك الأحزاب كانت تعمل فى ظل قصر فاسد وتحت أسنة احتلال غاصب فى إطار استقلال مزيف، فهل كان ذلك لأن تلك الأحزاب كانت إفرازاً لثورة شعبية، وليست نتيجة لقرارات فوقية؟، هل ترتكز المفارقة فى الرجال أم الأفكار؟.
لقد كان هناك برلمان، وحكومات تتوالى، وبرامج توضع.. هل هو النظام السياسى أم النظام القانونى؟.. أو بمعنى آخر هل نشطت تلك الأحزاب لوجود الحاكم الفاسد والاحتلال الغاشم، أم لأنها مثلاً تمتعت بضمانات دستور 1923؟.
لا شك أن الإجابة الموضوعية على الأسئلة السابقة قد تعطى قدراً من التفسير، ولكنها لا تحسم القضية، وعلى كل حال لم تكن التجربة الحزبية قبل الثورة نموذجاً متفوقاً لأسباب عديدة قتلت بحثاً، ولكننا ونحن ندرس الحاضر ونستشرف المستقبل لا بد أن ننظر أيضاً إلى الماضى، خاصة أن هناك من يزعم أن النظام الديمقراطى لا يصلح للشعوب النامية.
هل آن زمن دفن الشهداء؟.. أم أن هذا هو الزمن الذى ينبغى أن يبعثوا فيه من جديد؟.. سطور كراساتى القديمة، دموع فى زمن "بحر البقر" و"مصنع أبو زعبل"، ولا تزال تشب بينها نيران "الزيتية"، وصرخة فتى: "يا مصر يا بلدى .. أيام وبتعدى"، حين وقف بين زملائه يقرأ لهم قصيدته الجديدة: "لما الكلمة تعوز تأييد.. أصنع ليها نار وحديد"، هذا الفتى - أبوك يا ميسرة - كان مثلك طفلاً، يمزق صفحات الماضى ليكتب حاضراً أفضل ومستقبل أزهى.. وها هى صفحاته صفراء ذابلة حائلة، والطريق أوشك على منتهاه..
هل تصلح تلك الكراسات القديمة كوصية أم أنها لعنة يجب أن يتم تمزيقها وحرقها ودفنها؟، أنها – على الأقل – تاريخ شعور وأفكار إنسان، كيف يحتمل الإنسان فكرة أن تاريخه عورة يجب أن تتوارى؟! أو عاراً يستوجب انتقاماً؟!.
عيونها – ميسرة / زرقاء اليمامة - ترفض الوصايا، وتحرص فى نفس الوقت على مطالعة كراسات أبيها القديمة، ستتعذب مع كل سطر، حين تمر على أطلال الأحلام المحطمة، وتتأمل إلى نسيج العنكبوت الذى يخنق الأشعار والأغنيات، سوف تقف مع أبيها فى المحطات المختلفة، تراه صبياً يخطط فى كراسته المدرسية معركة الخلاص، سوف تعيش معه لحظات عشقه وفرحة اللقاء، سوف تبكى أحزانه، وتعانى معه زمن الانكسار وزمن الانتظار الطويل فى الخنادق، ولسوف تقفز فرحاً معه فى لحظة التفوق وهى تغتسل معه فى مياه القناة، ستشاركه رقصة الانتصار، فى تلك اللحظة سترى فى عينيه لأول مرة فرحة حقيقية، سترى آماله كلها وقد تحفزت تأهباً للانطلاق على أرض الواقع.
من المؤكد أنها ترفض فكرة إعدام هذا الماضى، ولكنها – أيضاً – ترفض أن تعيش أسيرة له، ستكون أقل رومانسية من أبيها، ولا شك أن قراءة أبيها ستساعدها فى ذلك كثيراً، ولسوف يسلحها بأدوات العصر الذى ينتظرها، الإيمان وحده ليس كافياً لمن أراد أن يمشى فى الغاب، فلابد من العلم وتطبيقه، وليس هناك مجال للتسامح أو العواطف.
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة