لم يكن الدين الإسلامى أبداً معادياً للجنس. بل إن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يحترم حق المرأة فى الاستمتاع باللقاء الجنسى مع زوجها ويعطى نصائح للرجل كى لا يحرم زوجته من لذة الفراش..
وفى القرون الوسطى اتهم الأوروبيون الإسلام بأنه دين جسدى يتحدث صراحة عن الجنس واللذة ويحرم الرهبانية واعتزال النساء، ولكن المفهوم القبلى والبدوى للعائلة والشرف اختلط بالإسلام منذ ميلاده، فحرم المرأة من حقوقها وضيق الخناق عليها وعلى جسدها، وكما كان الأفارقة يعتقدون أن الشيطان يسكن فى رحم المرأة فاخترعوا عادة الختان لطرد الشيطان، وكانوا، بل ومازالوا يقومون بتشويه الأعضاء التناسلية للمرأة وطمسها لحين زواجها، فإن العرب فى الماضى والحاضر كانوا يراقبون المرأة فى كل خطواتها ولا يثقون بمشاعرها وأهوائها، والسبب فى ذلك هو مفهوم الشرف كما فهمه العربى القديم، وهو مفهوم يرتبط بالرجل وحسبه ونسبه وغِيرته ومخاوفه. فكلمات: شرف، شهامة، مروءة، عِزة، كرامة، فخر، نخوة يمكن الاستعاضة عنها بكلمة واحدة هى: رجولة.
ومفهوم الشرف كان دائماً مرتبطاً بالنسب والعِرق والدم والخط العائلى للرجل، فالقصيدة العربية القديمة تعتمد على مدح قبيلة الشاعر وسرد أسماء أبطالها والتغنى بأنسابها، وبما أن المرأة هى الوحيدة التى تضمن عدم اختلاط الأنساب، فقد كانت دائماً تحت مراقبة الرجل، وهكذا أصبحت كلمة شرف مرادفة لكلمة عفة المرأة، وقد تبنى الإسلام أيضاً هذا التعريف للشرف وعلاقته بالنسب والخط العائلى، حتى إن الرسول نفسه تغنى بنسبه وافتخر به حين قال فيما رواه مسلم: إن الله اصطفى بنى كنانة من بنى إسماعيل، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بن هاشم، واصطفانى من بنى هاشم، فأنا خيارٌ من خيارٍ من خيار.
إذن فالشرف العربى يمكن تشبيهه بأمانة يودعها الرجل بين رجلى المرأة، أى أنه شئ لا يمكن للمرأة أن تكتسبه، بل هو شىء يمكن أن تخسره فى أى لحظة. ولم ينظر العربى والمسلم للمرأة عبر التاريخ على أنها بشر فى المقام الأول ولكن كحامل لهذا الشىء القابل للكسر والاشتعال والخطف الذى يسمونه الشرف، أو كحامل لولى العهد الذى سيحمل اسم العائلة، وقد أدى ذلك لتوتر العلاقة بين الجنسين التى أصابها البارانويا وعدم التوازن. وكان ذلك سبباً فى اختراع أو استيراد أساليب لترويض أو تخويف المرأة، مثل الرجم والجلد والختان والنقاب والبرقع. حتى أن هناك مصطلحا جديدا تم اختراعه فى هذا الصدد وهو "جرائم الشرف"، حين يقتل الأب ابنته أو الأخ أخته بسبب سلوكها، وهو مصطلح ظالم للمرأة ويحمل تبريراً للجريمة وكان من الأولى أن يُسمى "جرائم العار".
كانت هناك عادة غريبة مارسها الصينيون حتى خمسينيات القرن الماضى، وهى كسر أصابع قدم الفتاة وهى صغيرة ثم ثنيها تحت بطن القدم وربطها برباط خانق حتى لا ينمو قدمها ويظل صغيراً. وكان لهذه العادة البشعة أصل تافه وهو أن أحد الأباطرة قبل آلاف السنين وقع فى غرام راقصة وأعجب بقدميها الصغيرين، ومنذ ذلك اليوم والقدم الصغيرة فى الصين هى أهم معايير الجمال.
صارت العديد من الأمهات منذ ذلك الحين يصررن على كسر أقدام بناتهن فى الصغر، ومع مرور الوقت تحولت الموضة إلى عادة ثم إلى قانون، فكانت البنت ذات الأقدام السليمة لا تحصل على عريس. ويمكن مقارنة تلك القصة بقصة ختان الإناث فى مجتمعاتنا: بدأ الأمر بأسطورة أفريقية استوردها الفراعنة ثم تحولت لعادة ثم إلى قانون ألصقنا به الدين ومفاهيم الشرف، حتى صارت البنت التى لا تختن تخشى اليوم من العنوسة، مع أنها هى السليمة وليست المشوهة.
إن الجنس هو أكثر الأشياء طبيعية فى الحياة، بل إنه هو الحياة ذاتها. ولكن البشر يميلون دائماً إلى إضفاء جو من القدسية والرهبة على العملية الجنسية. وفى جميع الثقافات وفى جميع اللغات تقريباً يُطلق على "غشاء البكارة" مصطلح شبه دينى يعطى هذا الجزء من الجسد أكثر من حجمه، فيُنظر عليه كأنه بوابة مقدسة تتغير المرأة والعالم كله بعد فتحها، فى حين أنه ليس أكثر من شىء مرن لا يتهتك بعد أول لقاء جنسى وإنما يتغير شكله فقط (كما أثبتت آخر الأبحاث الطبية). وقد أصبح غشاء البكارة هذا حديث الصحافة ومجلس الشعب فى مصر لأسابيع بعد انتشار تقارير عن نزول كمية كبيرة من أغشية البكارة الصينية للسوق المصرى.
وحقيقة أن السوق المصرى فى حاجة لمثل هذه الأغشية بجانب الضجة التى أحدثها تناولها فى الأسواق، يوضح أن هناك خللا فى مفهومنا للأخلاق والقيم، لأن الأخلاق التى تأتى من مبدأ قصر الديل ليست أخلاقاً والعفة التى تأتى نتيجة عدم إمكانية الاختيار ليست سوى رذيلة تنتظر فرصة ارتكابها.
من الغريب جداً أن المجتمع وليس المرأة نفسها هو الذى يقرر أى أعضاء جسد المرأة مهم ويجب الحفاظ عليه مثل غشاء البكارة وأيها "زائد" ويجب بتره عن طريق الختان مثل البظر. تخيل عزيزى القارئ لو أننا اعتبرنا غشاء البكارة هذا كأى جزء من الجسد مثل اللحمية أو الغدة الدرقية أو اللوز وأعطينا المرأة وحدها حرية التصرف فيه، ماذا ستكون النتيجة؟ تخيل لو أننا أطلقنا على هذا الغشاء اسماً عاديا جداً مثل "باب زويلة" أو "كوبرى الهنا"! تخيل لو أننا اتفقنا أن المرأة هى التى تمتلك غشاء بكارتها وبظرها وليس العكس!
لست من دعاة العرى والفحش والمجون، ولكننى أتساءل عن مفهومنا للأخلاق والفضيلة ومدى فاعليته. هل عفتنا وطهرنا حقيقيان وناتجان عن ورع وتقوى، أم أنهما صارا مجرد أفكار وأحلام لا علاقة لها بواقعنا اليوم. هل هذه الأخلاق نتيجة فكر دينى معتدل يفهم طبيعة الجسد ويحاول التوصل لتوازنه، أم أنها أفكار قبلية عصبية هى التى تحكم علاقة البنين بالبنات والآباء بالأبناء.
%70 من أبناء وبنات مصر وفى العالم الإسلامى كله تحت عمر الثلاثين ونصفهم تقريباً من المراهقين، وقد صار الزواج فى عمر مبكر للرجال شبه مستحيل بسبب الحالة الاقتصادية. أى أن الغالبية العظمى من الشباب تعيش حياة جنسية غير صحية أثناء فورة الشباب وحتى مرحلة متقدمة من الرجولة، ولذلك أبعاد اجتماعية ونفسية خطيرة على مجتمعاتنا. وهناك علاقة وطيدة بين الكبت الجنسى والتطرف الدينى وظهور أشكال غريبة من العنف. فالجنس طاقة من طاقات الجسد، والمعروف عن الطاقة أنها تحتاج لقنوات سليمة تتفرغ فيها، وإن لم تتوفر هذه القنوات انتهت تلك الطاقة إلى فوضى وعنف. نظرة بسيطة لشوارعنا وما يحدث فيها من تحرش وانفلات وازدواجية فى الأخلاق يوضح أننا بحاجة لإعادة النظر فى مفهومنا للأعراف والقيم ولعلاقتنا بالجنس!
نشرت الكاتبة التركية "سيران آتيش" منذ شهور كتاباً مثيراً للجدل بعنوان "الإسلام يحتاج لثورة جنسية" تدعى فيه أن علاقة المسلمين بالجنس هى أحد العوائق بينهم وبين الغرب، وبالتالى بينهم وبين التقدم، وقالت إن الأسرة المسلمة تهدر طاقات مهولة فى مراقبة بناتها وأولادها، لذا فإن هذه المجتمعات تحتاج لثورة جنسية كما حدث فى أوروبا فى ستينيات القرن الماضى كى تتحرر الطاقات المكبوتة وتتحرر المرأة من عبودية الرجل، على حد قولها. وقد جمعنى بتلك الكاتبة لقاء تليفزيونى فى يناير الماضى بألمانيا ودار النقاش حول الجنس والإسلام. وقد اعترضتُ على مصطلح الثورة الجنسية كما تفهمه "آتيش"، وقلت إن هذا لا يمكن تطبيقه فى البلدان الإسلامية، لأن الثورة الجنسية فى أوروبا جاءت تتويجاً لثورات عديدة سبقتها فى أوروبا مثل الثورة الصناعية التى جعلت المرأة عاملة والثورة الفكرية التى حررت العقل والثورة التكنولوجية التى اخترعت حبوب منع الحمل والغسالة الكهربائية، التى بدونها ما تحررت المرأة أبداً. وقد استهلكت المجتمعات الإسلامية ثمرات تلك الثورات الأوروبية، ولكنها لم تنتج مثلها بعد، وهنا يكمن لب القضية.
لابد أن يعترف المسلمون أولاً أن هناك مرضا فكريا ومرضا عضويا فى قلب مجتمعاتهم، حتى يقبلوا حقيقة أن هناك دواء لهذا المرض. وهذا المرض له علاقة بعلاقة المسلمين بالعالم وعلاقتهم بالدين. والتحرر الجنسى لن يؤدى لنتيجة إيجابية طالما أن النظام الفكرى قائم كما هو ومحبوس فى فكر القبيلة وتقديس السلطة وعدم الخروج عن النص. لابد أن يتعلم الآباء أنهم لن يستطيعوا فرض أسلوب حياتهم وتفكيرهم القديم على أبناء جيل الفيس بوك. كما على الأبناء أن يفهموا أن الحرية لا تعنى هدم جميع الأسوار والعبث واستهلاك الملذات. ما نحتاجه هو إعادة تفاوض حول قضايا الدين والجنس ودور المرأة فى المجتمع، وعلى هذا التفاوض أن يخلو من التشنج والرجولة الكاذبة. وعلى مائدة التفاوض لابد أن يكون الرجل والمرأة ندين متكافئين. علينا أن نفهم أن استقلال الوطن يبدأ باستقلال الجسد. وعلينا أيضاً أن ندرك أن تحرير المرأة يتطلب أيضاً تحرير الرجل من أعباء الرجولة القاسية!
فصل من كتاب يصدر قريباً عن دار ميريت بالقاهرة ودار درومر بألمانيا
"سقوط العالم الإسلامى.. نظرة فى مستقبل أمة مريضة"
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة