حرت بحثا عن تعريف واضح لكلمة "تطبيع".. وضعت يدا على خدى أتأمل كل المجتهدين، من كل الاتجاهات والتيارات والميول، وهم يخرجون علينا بالتعريف تلو الآخر، ثم متجاوزين مرحلة الاجتهاد إلى اعتبار ناتج اجتهادهم أمرا واقعا، يستوجب الخروج عليه العقاب والتجريس!!
ولا أخفى عليكم، أنه كلما غمرتنا موجة جدل –والموجات كثر متتابعات – حول التطبيع والمتهمين بالتطبيع.. تقفز فجأة طافية على سطح تلك الموجة، جملة الفنان عادل إمام الشهيرة "مش هانسلم.. مش هانبيع.. مش هانوافق ع التطبيع!!".. فى فيلمه الرائع "السفارة فى العمارة".. فهى اختزال للمشهد العام.. بعض الذين يهتفون من تحت الموج.. مخطئون فى حروف الهجاء الوطنى.. والكثيرون منهم لو سألتهم: "يعنى إيه تطبيع.. ومن هو المطبع؟".. فلن تجد لديهم تعريفا واضحا محددا سوى فغر الأفواه عن آخرها، حتى مرحلة عدم السيطرة على سوائل الفم!!
منذ 30 عاما تقريبا.. بدت تلك الكلمة تزاحم على استحياء لاحتلال مكان خلفى فى قاموس كلماتنا المتداولة.. وشيئا فشيئا بدأت الكلمة تزحف بجرأة لتحتل الصفوف الأمامية.. مثيرة الرعب كقنبلة عنقودية فى قلب من ستلقى فى وجهه.. فإذا تم إلقاؤها.. تناثرت قنيبلاتها الصغيرة من داخلها إلى الخارج.. وخرج الأمر كله عن السيطرة.. أمر من ستلقى فى وجهه.. وأمر من يلقيها.. وأمر من يقع المشهد كله على مرأى ومسمع منهم.. دون أن تجد وسط حالة الفوضى والغبار الذى يخلفه إلقاء تلك القنبلة، من يقول لك أو يفسر: يعنى إيه تطبيع؟!!
تطبيع فى اللغة العربية، معناه أن تجعل أنت الأمر طبيعيا.. أى أمر.. فى أى وضع.. لكن معنى الكلمة فى يقين محترفى إلقاء القنبلة العنقودية – إياها – فى الوجوه، اختزل إلى إقامة علاقة مع دولة العدو، إسرائيل.. فى البداية كان الاتهام ينسحب على زيارة الكيان العدو – مع إغفال أن أرض هذا الكيان عربية – ثم بدأ التحول شيئا فشيئا.. حتى وصل فى غفلة منا إلى حالة شديدة التعقيد.. فصار مجرد التواجد فى أى مكان بالعالم.. بحضور أى من يحمل الجنسية الإسرائيلية تطبيعا.. وصار حضور أى فعالية على أرض مصر يحضرها من يحمل تلك الجنسية تطبيعا.. وشيئا فشيئا تعاظم الرعب من مواجهة تلك الكلمة القنبلة.. فتعاظم الانطواء على الذات.. والتقوقع إلى الداخل.. وانحسر مد الصحفيين والفنانين والمثقفين داخل حدود وطنهم.. يتحسسون الطريق فى كل مرة رغبوا فى الإبداع حتى لا تفاجئهم القنبلة إياها فجأة فى الظلام.. إلا قليل منهم.. آمنوا بما يفعلون.. وغضوا البصر عن كل الخفافيش التى تتربص فى الظلام.. مراهنين على وعى قطاع كبير من أجيال جديدة.. تعنى بالمعرفة والبحث وإعمال العقل.. فتجدهم فى منتدياتهم وأماكن تجمعاتهم يطرحون السؤال: مصممون على الوصول لإجابته.. يعنى إيه تطبيع؟!
اقبعوا فى منازلكم.. لا تشاركون فى أى فعاليات خارج مصر.. اتركوا الساحة خالية أمام إسرائيل ومواطنيها.. تمرح فيها كما تشاء.. فتنسج تاريخا آخر.. وواقعا آخر غير ما تحيون.. مادة خيوط علاقات بينها وبين مثقفى وفنانى وصحفيى دول العالم كله.. على أنقاض تاريخكم وحاضركم.. مارسوا الغيبوبة.. وأغلقوا الأبواب دونكم والعالم كله.. أو لا تغلقوها.. يقفز مرة أخرى إلى عمق حالة الفوضى تلك.. مشهد أخير فى فيلم "السفارة فى العمارة" أيضا.. عندما سمح البطل لضيوف السفارة ببهو بيته.. وقبع فى أحد الأركان.. يتحول تواجد الضيوف لاحتلال لكل الأركان.. وهو ينقل عيونه بينهم جميعا غريبا مذهولا.. ثم مغادرا منزله.. خارجا من باب العمارة.. ثم فى لحظة إفاقة من تلك الغيبوبة.. يعود.. آخذا قرارا بالوقوف على قدمين مرة أخرى.
وعندما تناقش أى من هذه الأشياء مع حاملى القنابل إياها.. يباغتك عاقدا حاجبيه: يعنى انت مع التطبيع؟.. هو لا مؤاخذة.. يعنى إيه تطبيع؟!!
* كاتبة صحفية بالأهرام
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة