عرفت نصر حامد أبوزيد فى 1965 مع الكبار الذين سبقونا إلى تكوين نادى الأدب بقصر ثقافة المحلة أحمد عصر ورمضان جميل وجابر عصفور وسعيد الكفراوى ومحمد صالح وأحمد الحوتى وبكر الحلو وسعد السياجى.
فى ليلة شتوية من يناير 1965 كنا أنا ومحمد المنسى وجار النبى ندخل قصر الثقافة لأول مرة قاصدين "نادى الأدب".
هاهو قصر عبد الحى خليل باشا، الحديقة الواسعة المنسقة، السلم الرخامى الأنيق، البهو الواسع البديع، بحوائطه المنقوشة، وأباليكه الثمينة، بسقفه المزدان بالكرانيش والحليات، وبالثريا الباهظة التى تتدلى منه، بالحجرات التى تفتح على البهو وتلمع أرضياتها الباركية، كنا نتقدم مبهورين فى عالم قرأنا عنه فى روايات السباعى، عالم مثل عالم إنجى فى "رد قلبى"، نقيض لعالمنا الذى جئنا منه، مباين لبيوتنا المتهالكة، وحجراتنا الفقيرة الضيقة، عالم لم يكن من الممكن الاقتراب منه، أو التجول فيه هكذا (كأصحاب بيت) إلا لأننا كتّاب!، أدركت لحظتها أن "الكتابة" قادرة على التغيير، وأنها تمنح الموهوبين القيمة والاعتبار، منذ هذه اللحظة قرّ فى نفسى أن "الكتابة" مطلق لابد من التعامل معه بالإخلاص والمسئولية التى تنبغى له! عندما دخلنا النادى ورأيته أدركت أن مشوارا طويلا سنقضيه معا!
كان نصر وقتها شاعرا، يكتب بالفصحى والعامية، وكنا نرتاح إلى أن يكتب بالعامية كأنما ليكون لدينا صلاح جاهين محلاوى! كان سمينا مثله، وطيبا مثله وكان قد حصل بالفعل على جائزة الثقافة فى شعر العامية عام 1969.
كان يعمل فنى لاسلكى فى بوليس النجدة بالمحلة، وكان بيته مع بيت سعيد الكفراوى ورمضان جميل وجار النبى الحلو من البيوت التى نجتمع فيها، من حين لآخر، لنتناقش فى الأدب، وفى الظلام الذى ساد المدن أثناء حرب 1967 كنا نهيم فى الشوارع المظلمة، بنوافذها الزرقاء، الشحيحة الضوء، حتى نجد أنفسنا، بدون ترتيب، عنده فى العمل، يصنع لنا الشاى ونكمل مناقشاتنا الممرورة عما يحدث فى سيناء، ونتأول ما يذاع عن خط الدفاع الثانى، الذى على قواتنا أن تعود إليه!!
كنا نعيد الثانوية العامة من أجل تحسين المجموع، وعندما نجحنا فى هذا العام الكئيب أنا والمنسى وجار النبى، فى الثانوية ودخلنا كلياتنا، قرر نصر أن يمتحن الثانوية نظام الثلاث سنوات، ورغم الصعوبات الكبيرة استطاع أن يفعلها، تجاوز عقبة اللغة الفرنسية بالتعاون مع بكر الحلو (وكان أستاذا للغة الفرنسية وأحد أعضاء نادى الأدب) نجح نصر وانتسب لكلية الآداب وانتقل للعمل ببوليس النجدة فى العجوزة، بل وأغرانى بالانتساب أيضا، فتقدمت بأوراقى، وحال دون التحاقى بالكلية، اشتراطهم موافقة جهة العمل على الدراسة!! لم أكن أعمل، كنت مجرد طالب ناجح طازة، ولم أستطع حل المشكلة!، لكننى ظللت أحضر مع نصر كثيرا من محاضرات الدكتور حسن حنفى والدكتور جابر عصفور الذى كان معيدا وقتها، وتعرفت بمداومة الذهاب مع نصر على معظم أساتذة قسم اللغة العربية، عبد المحسن طه بدر وعبد المنعم تليمة وحسين نصار وأحمد مرسى وطه وادى وآخرين.
انشغل نصر عن الشعر بالبحث الأكاديمى، كان جادا فى مشروعه، وراهن عليه متقبلا فى سبيله النفى والتهديد والتضييق، ومصادرة كتبه، والتشنيع عليه وتكفيره، كانت ابنتى تدرس علم النفس بكلية الآداب، وكانت لديها مشكلة صغيرة فذهبت إليها، وتكلمت فيها مع الصديق الدكتور شاكر عبد الحميد، وكان يدرس لها، ثم قلت لها سأسبقك إلى غرفة الأساتذة فى قسم اللغة العربية، وهناك جلست مع نصر نتحدث ومع الصديق الدكتور سيد البحراوى حتى جاءت فعرفتها على د. نصر الذى احتفى بها جداً لكننى لاحظت تحفظها، وما أن وجدتْ فرصة حتى همستْ فى أذنى: هو ده صاحبك يا بابا؟! دول بيقولوا عليه كافر.
لم أشعر بالحزن كما شعرت لحظتها، ولم أشعر بقوة التيارات المناوئة للتجديد والتنوير كما شعرت لحظتها، وأن الانتصار للعقل والحرية لم يعد يعنى أحدا، لحظتها تأكدت أن ليس نصر وحده الذى فى خطر، بل العقل المصرى أيضا!!
وكان ما كان ويعرفه الجميع، لكننى لم تنقطع اتصالاتى معه، وظللت أستشيره فى ما أكتبه، أرسلت له فصولاً من كتابى "مكاشفتى لشيخ الوقت" فكان أن جائنى رده:
العزيز فريد:
مكاشفاتك وصلتنى وقرأتها بقدر هائل من المتعة، لأن كل مفاتيحها عندى، لكنى أتعجب هل يمكن أن تتواصل التجرية مع قارئ غير عارف؟ هذا سؤال قد يبدو ساذجا عند الناقد المحترف، لكنه ليس كذلك عند الناقد المشغول بقضية التواصل. لعل دافعى وراء السؤال هو إحساسى بأن لغة الصوفية امتلكتك وسيطرت عليك إلا فى استثناءات تبدو فيها اللغات غير متواصلة، أعنى لغتك المهمومة بالحاضر ولغة الصوفى المشغولة بسؤال الوجود. بدا لى لبعض الوقت أن سؤالك هو سؤال "الموت"، لكن اللغة فى أحيان قليلة تعكس سؤال الحياة والعدل والحرية، سؤال العقل والرمز والأسطورة، لكن هذه الأسئلة الأخيرة متشظية داخل اللغة الخانقة فى تقديرى بالمفردات اللاهوتية. خللى بالك هذه انطباعات القراءة الأولى، لكنها ليست قراءة سطحية على أية حال.
هل هذا ديوان أم جزء من ديوان؟
فى حالة الرد يستحسن أن ترد بملف ملحق أفضل من رسالة بالعربى؛ أحيانا لا أستطيع فتح رسائل الهوت ميل بالعربى إلا عن طريق ياهو، وأحيانا أعجز.
Prof. Dr. Nasr Abu-Zayd
Islam and Humanism
University for Humanistics, Utrecht;
Islamic Studies, Leiden University
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة