ما إن وطأت خالته الستينية - التى تنتمى إلى إحدى الدول العربية - أرض المطار حتى أقسمت أن تكون وجهتها الأولى هى المسجد الحرام.
ولم يكن ذلك غريبا على صديقى فتلك هى عادة المسلمين القادمين من الخارج، فقلوبهم دائما ما تهفو لزيارة الحرمين الشريفين، فرؤية الكعبة على شاشات التلفاز تشعل القلوب شغفا، وما إن تنتصب أمامهم حتى تنهار الأنفس وتنهال الأدمع وتطلق الحناجر نشيجها مختلطة بعبرات يعرفها كل من وقف هذا الموقف.
انطلقا سويا إلى أم القرى لأداء العمرة والوقوف على ذلك المشهد الذى تمنته الخالة وظلت تحلم به طوال سنوات عمرها، وما إن بدأت الطواف حتى جانبها صديقى لينتهى به المقام فى كل مرة من المرات السبع إلى أن يصبح خلفها مدعيا حماية ظهرها واضعا يديه على كتفيها، تجنبا للمدافعة والعراك وأشياء أخرى.
لم تهتم فى المرة الأولى، ثم ما لبثت أن نهرته فى المرة التالية، فغمز لها بعينه وهمس فى أذنها بطريقة مريبة، يحذرها أن هناك من يحاول مضايقة النساء، فردت بعفوية: يا بنى تعلمنا أن همم الرجال تفتر بين أيادى الله سبحانه وتعالى، ولا يبقى سوى همم الحيوانات التى ينعدم فيها التمييز بين شهوتها واستحضار قدسية هذا الطهر والجلال، فلم ينبس صديقى ببنت شفة، ولم يزل على حاله حتى انتهت الخالة من عمرتها.
وفى طريق العودة ناولته خالته كتيبا صغيرا ملخصا لصفوة التفاسير لمحمد على الصابوني، فوقعت عينه على قوله تعالى: "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم". (الحج/ 25).
فقاطعته: هنا مربط الفرس، فى الجزء الأخير من الآية "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"، حيث إن الله سبحانه وتعالى لم يؤاخذ أحدا من خلقه على الهم بالمعصية إلا فى المسجد الحرام (أى مجرد التفكير فى ارتكابها)، لأنه المكان المقدس الذى يجب أن يكون فيه الإنسان نقى القلب، طاهر النفس، صافى السريرة، خالص بكليته لله، فمن ينتهك حرمة الملك فى حماه جدير بالجحيم والعذاب الأليم. وعن ابن مسعود: لو أن رجلا فى عدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت الحرام أذاقه الله عذابا أليما، وقال مجاهد: تضاعف السيئات فى المسجد الحرام كما تضاعف الحسنات.
فهل فهمت مرادى يا بنى؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة