هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ سؤال اطرحه على القارئ ولا أخفى عليه حيرتى الشخصية كلما واجهت هذا التساؤل وهى حيرة أود أن استعرضها مع القارئ، لعلى أجد لها مخرجا، بداية أرى أن مقولة الشرق العاطفى والغرب العقلانى مقولة مرفوضة لأنها تنتمى من وجهة نظرى إلى خرافات ما يمكن تسميته بالطبائع الثابتة، التى نبتت وترعرعت على الأرضية الاستعمارية، فأوربا الكولونيالية عرفت فى القرن التاسع عشر أيديولوجية عنصرية، مؤدّاها أنّ للشعوب طبائع تتوارثها وأنّ تلك السمات الوراثية هى المسئولة عن اختلاف الفكرى بين الأمم والشعوب، وعليه تم إقرار التضاد الآتى: إنّ«الأوروبيين» المنحدّرين من الجنس الإغريقى يتَّسمون بميل فطرى إلى ممارسة الحرية والعقل، بينما يتصف «الشرقيون» باستمرائهم العبودية، لتطابقها مع طبيعتهم العاطفية وعجزهم عن الممارسة العقلية الصحيحة، وعلية وبينما يميل الغربى إلى دراسة الأمور السيطرة على عاطفته، يطلق الشرقى، خاصة مواجهة شدائد الامور، العنان لعواطفه ومشاعرة، فيفقد السيطرة على نفسه ويتملكة الصريخ والعويل والوعيد، وعلى الرغم من رفضى مبدائيا لخرافة عقلانية الغرب وعاطفية الشرق، إلا أننى – وهنا تكمن حيرتى – وجدت نفسى بالأمس القريب وأنا أتابع ردود الفعل العربية على العملية الإسرائيلية أمام سواحل غزة، أتساءل هل يفقد الشرق بالفعل فى وقت الشدائد عقله ويترك العنان لقلبه، فالمتابع للفضائيات العربية لا يرى فقط بيانات وتصريحات الشجب والإدانة والغضب والامتعاض والمطالبة بسحب السفراء وعقد الاجتماعات ونشد الاناشيد وسرد القصائد والاشعار، بل يتعدى المشهد العربى المعقول إلى اللامعقول، فهذا فريق يغلب عليه الصراخ والعويل والبكاء على فردوس القوة والكرامة العربية من صياح وا معتصماه مرورا بانتطار صلاح الدين ليحرر فلسطين، إلى الترحم على جمال عبد الناصر، الذى وحد الأمة وكشف الغمة؟ وهذا فريق آخر يرفض الاعتراف بموازين وقوانين القوى، مطالبا بالمقاومة ومتوعد للغرب واليهود بالويل والثبور وعظائم الأمور، رأيت مثل هذه المشاهد واحسست بمرارة، فردود فعل كهذه قد تشبع لحظيا نفسً عربيةً مجروحة، الا انها كالهَبَاءً المَنْثُورًا، تذهب مع أطياف الرياح، لا تسمن ولا تغنى من جوع ويبقى ضررها أكثر من نفعها.
وقفت مع ذاتى مترددا فى الكتابة، فأحيانا يكون الصمت اوقع من الكلام، غير أن من نافلة القول، إن المهمة المنوطة بالمثقف أن يعمل على تحطيم القوالب والأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التى تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنسانى وعلى التواصل بين البشر.، نعم أن ما قامت به اسرائيل ما هو الا هوس وجريمة والسؤال الذى يطرح نفسه، كيف نتعامل مع هوسة إسرائيل وفاقدى العقل والصواب فى الحكومة الإسرائيلية؟ والإجابة العقلية بسيطة وهادئة، فهناك ميزان قوى بضمانات أمريكية فى صالح إسرائيل، بل وأزيد على ذلك وأقول إن إسرائيل باتت فتوة النظام العالمى الجديد وهو فتوة يستمد سطوته وعنجهيته من الصمت الغربى، نعم الغرب يصمت ويكيل بمكيالين، فالغرب الذى يدافع عن حقوق الإنسان فى التبت وفى زيمبابوى وفى إيران هو ذاته الغرب الذى يصمت فى غزة، والغرب الذى سارع لنجدة منكوبى هايتى، ينظر إلى مأساة أهل القطاع بلا مبالاة ويجازف بفقدان مصداقيته على أبواب غزة، فهل يعنى هذا أن ننهزم ونفقد الأمل ونستسلم لواقع ومنطق الغاب، الذى يسود فيه القوى وينقرض فيه الضعيف؟
لا، علينا أن نتواصل إلى الرأى العام العالمى، نشرح قضيتنا، بلغة يفهمها رجل الشارع فى العواصم الغربية، علينا أن نكتسب تعاطف العالم، ولا نعتقد أن التواصل مع الرأى العام العالمى موقف الضعيف، لا أن الرأى العام العالمى قوة، يمكن لها أن تغير حكومات، وترجح كافات، آن الأوان للتواصل مع الرأى العام فى مواجهة صلف وغطرسة حكومة اليمين الإسرائيلى، نعم لقد أوقفت البحرية الإسرائيلية قافلة الحرية، إلا أنها خسرت معركة غاية فى الأهمية، وهى المعركة الإعلامية، وهى خسارة يعيشها كل مراقب للشارع الغربى، من مدريد إلى استكهولم ومن برلين الى واشنطن، وهذا ليس تفاؤل مفرط، بل هو واقع، يعكسه نمو النقد الغربى لليمين الإسرائيلى، وهنا فى العواصم الأوربية، فى الولايات المتحدة وكندا تتبلور خشبة مسرحية للمثقف والمفاوض والإعلامى العربى لطرح قضية الشعب الفلسطينى، مطالبين بوقف دولية ضد حكومة الهوس الاسرائيلية؟ بعيد عن التهديد الفارغ والوعيد الحالم للغرب واليهود، هذا هو التحدى، فهل نكون من أهل العقل أم أهل العاطفة؟
* جامعة لايبزج الألمانية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة