أجمل ما فى كمال أبو عيطة بساطته التلقائية، وأعظم ما فيه ولعه بخدمة الآخرين، يمشى فى حوائج الناس كأنها حاجته، يبادر إلى معونة أى شخص بدون طلب منه، كأنه مكلف بقضاء حوائج البشر، وله فى ذلك قصص تُروى، يعرفها كل الذين احتكوا به وتعاملوا معه، يشارك الناس أحزانهم قبل أفراحهم، إذا كنت معه فى سفر فهو أول المبادرين إلى تحضير الأكل للذين معه، وإذا زاملته فى سجن فهو أول الساعين إلى مسح دمعة محزون، وإذا كنت فى كربٍ فهو أول من يبعث الضحك والسخرية من الحال التى أنت عليها، مرة صحوت فى جوف الليل على صوت ضابط أمن الدولة يوقظنى، وكنا نياماً فى بيت أحد أصدقائنا، وما أن فتحت عينى، إذا بالضابط الكبير يبدو وكأنه وقع على كنزٍ مفقود فيصرخ: محمد حماد الشيوعى؟ وقبل أن أستوعب ما يجرى من حول سريرى إذا بكمال يطلق واحدة من قفشاته وسط ذهولنا جميعاً، فيقول: إيه ده، أنت طلعت شيوعى وإحنا منعرفش؟، ابتسم أصدقائى جميعاً وكشرت أنا فى وجهه، ولسان حالى يقول: إحنا فى إيه وأنت فى إيه؟.
قرأت الكثير مما كتب عن كمال أبو عيطة ولم أستغرب هذا الوله الذى تحول إلى حروف محبة بل، وعاشقة لظاهرة نبيلة من ظواهر حياتنا الوطنية، فأنا أعرف مصدر هذا الوله وأعرف أسبابه، ولست أدعى لنفسى معرفة خاصة بكمال أبو عيطة أفضل من معرفة الكثيرين به، لكنى أعرف جيداً مصدر هذا الحب للفتى الذى كان من حظى أنى تعرفت عليه عن قرب فى أول سنى الشباب.
لم أعرف أحداً تغلب على الضعف البشرى كما فعل كمال أبو عيطة، فهو علَّم نفسه الجسارة، ودرب كل ملكاته على مقاومة ضعف الإنسان فيه، وظنى أنه لم يتعلم ذلك لا فى مدرسة ولا فى كلية ولا حتى فى خضم حركته النضالية، لقد تعلمها من ملازمته للناس، لأبسط الناس، للفواعلية والصنايعية، لعمال البناء، لهؤلاء الذين يعملون بكدٍ وتعبٍ على مدار النهار من أجل لقمة عيش شريفة، تعلم كمال من هؤلاء كيف يقهر ضعفه الإنساني، وهو على الحقيقة مثلهم، يفعلون ما لا يقدر عليه أحد، ولا يرون فى ذلك ميزة تميزهم، يفعلونه كأنه الأمر الطبيعى الذى خُلقوا له.
لم ينفصل فى يوم من الأيام عن أبسط الناس فى الحى الذى ظل يقطنه طول حياته، عمل مع أبيه المقاول الصغير منذ نعومة أظفاره، وكان فى نفس الوقت يرتقى فى مدارج التعليم، وحصل على ليسانس الآداب فى الفلسفة وليسانس القانون، وبقى طول الوقت يتعامل بتلقائية مع الأسطوات، حتى بعد ما تخرج فى الجامعة عمل لبعض الوقت فى الصنعة التى أتقنها وهو صبى صغير، وظل يحتفظ ربما حتى اليوم بعلاقاته بزملاء الصنعة، يتحدث معهم كواحدٍ منهم، ليس تواضعاً ولا تكلفاً، بل هى طبيعته التى لا يتصنعها، وذلك كنزه، وتلك أسطورته الحقيقية.
أستطيع أن أزعم أن وجود كمال أبو عيطة فى قلب الحركة الطلابية ومن بعدُ فى قلب الحركة الوطنية أعطاهما طعماً مختلفاً ومذاقاً حريفاً لا يستطيع أحد غيره على إعطائهما إياه، فقد كان ولا يزال نسيجاً وحده، لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد، أذكر كيف احتشدنا فى مظاهرة تضم المئات من الطلاب ونحن نهتف وراء كمال خليل القيادى اليسارى المعروف بصوته اللين هادئ النبرة: (مجلس شعب صباح الخير، دا انت رئيسك مليونير)، فإذا بصوت جهورى يملأ عنان السماء يهتف من خلفنا بقوة ووضوح كأنه الصاعقة: (مجلس شعب صباح الطين، دا انت رئيسك قط سمين)، قبل أن تعلو أصواتنا بالهتاف صفقنا لصاحب الصوت، لكلماته الصارخة، ولسرعة البديهة الحاضرة، وحملناه فوق الأعناق، واشتعلت المظاهرة حماساً منقطع النظير، وخلال دقائق تدفق طلاب كثيرون فى نهر المظاهرة التى جابت الحرم الجامعى ووقفت عند أبواب الجامعة تدقها تهم بالخروج إلى الشارع، ومن يومها ولد نجم جديد فى سماء الحركة الوطنية والقومية، نجم لا تحجبه عين الشمس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة