الجماهير الغفورة
لن يعود مرة أخرى.
قالت أختى، بدموع حارة على خديها وصوت متداعٍ مكسور من فرط الخوف على حبيبها.
قلت وقلبى يوجعنى عليها، لكننى أخفى وأتماسك كى لا أكسر صورة أبى الذى لم يعطِ أهل محمود موافقة واضحة على الزواج - أو كلامه:
لا تقلقى، سيعود.
كانت ثمة مشكلة تافهة من مشاكل الزواج فى الريف، فى السنوات الأخيرة أصبح العراك على من يكتب اسمه أولاً فى بطاقة دعوة العرس.
لم تعد المشكلة اسم العروس أو العريس أو اسم أبيه أو أبيها، المشكلة أصبحت فى عمها المهم أو خاله الضابط فى نقطة مرور على الطريق السريع.
فى السنوات القليلة القادمة ستطبع صور العروسين فى قريتنا على بطاقة الدعوى وسيتم التقاتل بين الأهل بالطبع على الصور المرافقة.
كلمة منى واسمعوها.
أختى جاءت من ناحية – كنت أدير مفتاح سيارتى للرحيل من القرية صوب القاهرة - وهو جاء من الناحية الأخرى برجاء وافر:
استرنا الله يسترك، وخلصنا من هذه المشكلة التافهة.
كنت الأكبر بين أخوتى، وأظننى مازلت.
محمود رفيق طفولتي، طيبة الدنيا فى وجهه معجونة بطيبة الآخرة (مضروبة فى اثنين)، وتسامح وحنان يكفيان نصف العالم.
أقوم من النوم مباشرة – وبعد أن أكون قد غسلت وجهى على عجل- أناديه أو أدخل دارهم الملاصقة لدارنا لنرحل معًا.
نسير رفقة حتى ملعب الكرة، وسعاية لجده لأمه، تمنحنا هذه القرابة صك اللعب طوال اليوم على حسه وصيته، أقول نمضي، يمسح عن فمه آثار الأرز أبو لبن، إفطارهم الوحيد لسنوات، أرز مطبوخ بايت من ليلة أمس، صُنع على الطريقة البدائية، يبدو فى الصباح كقطعة كاوتشوك تستطيع أن ترسلها إلى الحائط المقابل فترد عليك، ولبن ساخن حُلِب لتوه من جاموستهم الوحيدة، من ضرعها إلى طنجرة على النار – بث مباشر على الهواء-، ومن ثم يدلق على الأرز البارد، وإن كان الجوع لم يقرص قرصته بعد يمكن أن يغليا معاً..ولفت مخلل حار، يوقظ الدم والحواس ويمسح الكآبة عن الطبق الرتيب اليومى.
كان لا بد لأختى أن تكون زعيمة مثل أمي، أمى اصدمت مبكرًا بأبى الحاذق، ملأ لها الخيمة بالبخور وكتب الاتحاد الاشتراكى فى ذلك الوقت فأسلمت، ومحمود ملأ لأختى كفوفه بالعسل وخدوده بالمحبة، وهى تنحنحت فقط ثم طلعت فوقها وراحت تخطب.
أختى زعيمة ولا شعب لها.
أصبح محمود شعبها، تخطب فيه ليل نهار تصيح تأمر وتنهي، وحين تغلبها طيبتها تمنحه حنانها الذى تطبخه بدموعها القوية بعد أن تكون قد فرغت من الخطب القومية.
وهو يضحك.
لم يكن يعرف اللعب.
كان يأخذ الكرة عند منطقة الجزاء يركلها بالعرض من طرف الملعب إلى الطرف الآخر، يسبقك ويتوقف برهة حتى تأتيه ليطمئن عليك ثم يعود فى الاتجاه المعاكس.
لم يتقدم أبداً للأمام.
لا يحب المخاطرة، ولا المغامرة وربما لا يعرفها، وحتى إن عرفها لم يقربها طوال عمره.
شعب مثالى يرجف بالرهبة والحب أمام الزعيمة، لكنه يضحك من خلفها كطفل، لتضحك هى فى الأمام.
أخطأ الفلسطينيون كثيراً فى حق أنفسهم وحق أختي، كانت تستطيع أن تكون المفاوض الصعب بحق أمام عدو يتقن جرك لمتاهة التفاصيل بعيداً عن الموضوع الأصلي.
.. كنت سأحصل لهم على أكثر من الضفة وغزة.
ومحمود يؤمن على كلامها بدون رائحة من ضحك أو شبح ابتسامة حتى لا تشم رائحة سخرية فتقضى عليه.
المشى بالعرض أو على خط أفقى أنقذه دائما من خط هجومها، ترك لها المرمى والأهداف وراح يحاورها من بعيد دون أظافر ودون أشواك.
وحين يتقدم – نادراً ما يحدث- يتقدم بنية مشاكسة الأطفال لتطلق الزعيمة خطبها وخططها المكتومة داخلها.
وبعد أن تنتهى يجمع نثار كلامها يطبخه حناناً ورغيفاً بالسكر والضحك من القلب.
الموت قريب، أقرب من أن تصطدم سيارة محمود وهو واقف فى مكانه.
لم يتقدم إلى الأمام، أقسم أنه لم يفعل، رغم أننى لم أكن هناك، واقف مكانه وضحكت تبعثرت فى الهواء.
من بين أنياب الصدمة أعرف ما يدور فى قلب أختى وعقلها، وأرى صمتها ملتهبا فوق نارها.
لن يكلمها كعادته عشر مرات فى التليفون يومياً، ولن يدق عليها أحد الباب حيث تسكن فى مدينة بعيدة، تعرف أنها فقدت أجمل متعة..متعة انتظار حبيب، وستجد الميدان فارغاً من شعبها الذى رحل كله فى غمضة عين.
هل رأيت شعباً يرحل ويترك زعيمه، محمود بالطبع لم يكن يقصد ولا خطر بباله.
كان الجماهير الغفيرة والجماهير الغفورة.
ستحاول بعد سنوات من الآن - حتى يكون قد مر وقت كاف لتصدق أنه رحل- أن تتشمم رائحته فى ملابسه التى مات فيها وحفظتها كما هي.
ستعيد على جملتها الأولى بدون بكاء:
لن يعود مرة أخرى.
أود لو أقول لها: لا تقلقى، سيعود.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة