معصوم مرزوق

فصول من مسرحية النكسة

السبت، 05 يونيو 2010 08:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كلما شاهدت فيلم «العصفور» ليوسف شاهين، أعادنى الفيلم ـ وخاصة المشاهد الأخيرة ـ إلى سنوات طويلة مضت، تبدو الآن بعيدة جداً وحاضرة جداً فى نفس الوقت.. كيف لا وقد مضى على نكسة يونيو أكثر من أربعين عاماً ؟.. تلك اللحظة التى انتهى فيها جمال عبد الناصر من خطاب التنحى الشهير، وخروجى مندفعاً إلى الشارع حيث وجدت الآلاف غيرى، وحصارنا لقسم الشرطة القريب ونحن نصرخ مطالبين بالسلاح، ومأمور القسم المسكين وقف حائراً يحاول تهدئة الجموع وطمأنتهم بأنه طلب الإمداد بالسلاح كى يوزعه علينا.. ذلك المساء الغريب، حيث دوت طلقات المدافع المضادة للطائرات بشكل كثيف ومزعج لم يكن يعلو عليها آنذاك سوى صوتنا الذى يردد دون توقف:«ها نحارب.. ها نحارب»..
بشكل ما اعتبر هذه اللحظة أهم وأعظم وأخطر من لحظة أخرى شاء الله أن أشهدها، وأعنى لحظة عبور قناة السويس، فاللحظة الأولى أهم لأنها كانت فى موقف هزيمة وانكسار، بل وتتجاوز ذلك إلى موقف اختبار وتحد لأسئلة مجهولة، لحظة لم نكن نعرف ما تخفيه الأقدار خلفها، بعكس لحظة العبور التى كانت بكل تأكيد موقف انتصار، وكنا بالتأكيد نعرف الهدف ونتوجه إليه بكل قوة وإصرار مهما كانت التضحيات.
تلك اللحظة المنكسرة كانت فى المقارنة أعظم لأنها عكست بشكل واضح كل ما فى هذه الأمة من صلابة ونبل وتراث، وكشفت عن المعدن الأصيل الذى تجلى فى وقت المحنة الكبرى، وإن كان ذلك لا يقلل من عظمة لحظة العبور، ولكن تبقى تلك العظمة الأخيرة فرع من الأصل، والبعض لا يطاول الكل أو يساويه.
أما أن لحظة النكسة كانت أخطر، فلا يمكن أن أجد الكلمات الكافية التى تعبر عن هذه الخطورة، لقد كانت صدمة هائلة كفيلة بضياع الأمة لأحقاب طويلة، وذلك هو ما توقعه كل المحللين بقياساتهم وحساباتهم الباردة، وما رآه العدو كنتيجة طبيعية لما حدث، وأكاد أقول ـ بدون مبالغة ـ أننا على شاطئ قناة السويس فى لحظة العبور لم نشعر بهذا النوع من الخطر، فقد غمرنا شعور جارف بالنصر منذ اللحظة الأولى.
منذ ذلك التاريخ البعيد، كتبت عشرات بل مئات المقالات والخواطر والذكريات حول تلك اللحظة الحزينة، وكلما اقتربت الذكرى أجدني، وبشكل غير واعٍ، أستعيد المشهد، وأعقد المقارنة بين تلك اللحظة ولحظات أخرى عديدة حملت بعدها العديد من المشاهد الأخرى.
وأجدنى فى اللحظة الحالية أشعر بأن الستار لم يسدل بعد على ذلك المشهد البعيد، وأن الفصول تتوالى وتتغير الإضاءة كى تعكس مرور الزمن، ولكن الديكورات لا تزال فى مكانها، والشخوص لا تزال تبدل ملابسها وأقنعتها ولكنها نفس الشخوص، والجمهور مسترخ على مقاعده متفرجاً على الفصول المتكررة.. قد يتثاءب أو ينام أو يصرخ متألماً أو يبكى فى صمت، لكنه قابع فى ظلام القاعة يتابع المشاهدة.. ولا تزال المسرحية مستمرة.
فى الذكرى الخامسة عشر للنكسة، أخترت مدينة « بورسعيد» كى أمضى فيها ليلتين، كنت وبشكل غير مفهوم أريد أن أتنفس رائحة القناة وتاريخ المدينة المناضلة وذكريات مطار الجميل والعدوان الثلاثى، وأتذوق بعض رحيق النصر القديم... كنت وحدى أسير فى شوارع « الأفرنجي» حين قابلت « محمد اليمانى»، رفيق سلاح الصاعقة القديم الذى حارب إلى جوارى فى الجيش الثالث الميدانى فى زمن العبور.. ابن بورسعيد الشهم الذى كان يطربنا بصوته فى ليالى الخنادق.. تعانقنا بشدة.. أبديت ملاحظة على كرشه المتدلى متسائلاً عن رشاقته المعهودة، قال لى بلكنته البورسعيدية المحببة: «خلاص يا بوص، بقينا مدنيين»!
أصر أن يصحبنى إلى منزله، قدمنى إلى زوجته وطفلتيه، جلسنا فى الشرفة نرقب أضواء الميناء التى تتلألأ فى الأفق البعيد، أعدت زوجته عشاء سريعاً شهياً من أصناف السمك المختلفة، كنا نسترجع أيام الخنادق الجميلة، نتذكر أيام التدريب وليالى القتال وأسماء الشهداء والأحياء من رفاق السلاح، كان يطلب منى أن أحكى أمام زوجته وطفليه بعض قصص البطولة التى شهدتها الحرب، وهو ينظر إليهم وكأنما لسان حاله يقول لهم « هل تصدقون الآن ما كنت أحكيه لكم»..
أتذكر.. أختنقت العبرات فى صدره، أشتكى من ظروف الحياة، من « بورسعيد» التى تحولت إلى مدينة أخرى غير المدينة التى عرفها فى صباه... سألنى عن فرصة عمل أفضل يكسب منها رزقه بشكل حلال.. بعد ذلك بسنوات، علمت أن « محمد اليمانى « مات وهو يقاتل على الحدود العراقية ـ الإيرانية ضمن القوات العراقية.. . لقد سافر للعمل فى العراق، ثم انضم للجيش.. . يقولون أن جثمانه قد يكون مدفوناً فى بقعة ما فى الأراضى الإيرانية أو العراقية.. . ومنذ أن علمت هذا الخبر لم أعد أشعر بأية رغبة فى زيارة بورسعيد.
تملأنى رغبة جامحة فى أن أجمع كل الصفحات التى كتبتها فى هذه الذكرى على مر السنين، حيث أنها حملت فى كل عام مشاهد وخواطر وذكريات مختلفة، ولكن يجمع بينها جميعاً أنها فصول مختلفة من مسرحية واحدة.. . ورغم هذه الرغبة أتساءل عن الجدوي.. هل هى مجرد إشباع لذات تسعى لإستخلاص بعض الحقائق ؟ أم أنها نزوة كاتب يريد أن يعيد على الناس مشاهد مسرحية يحفظونها عن ظهر قلب ؟ أم مجرد محاولة كى أترك لأجيال قادمة بعض مشاهد زمن مررت به، قد يجدون فيها فائدة ما؟ ..
لا أدري... فلقد غطست مثلاً منذ سنوات فى الوثائق السرية الاميركية التى أفرج عنها كى أستخرج منها مشاهد جديدة لنفس الفترة الحاسمة من حياتى وحياة أمتي، وبعد رحلة عذاب ومعاناة وبحث لم تبتعد المشاهد التى استخلصتها كثيراً عن نفس المشاهد التى عاينتها، والخلاف لم يكن فى النوع وإنما فى الدرجة، أى فى بعض الألوان والإضاءات والظلال... ولكنها نفس الملهاة ـ المآساة...
لذلك فأننى أكافح هذه الرغبة، وأسارع مثل الآخرين إلى مقعدى المحجوز فى القاعة المظلمة بين المتفرجين كى أشاهد تتابع الفصول قد أتثاءب أو أنام أو أصرخ ألماً أو أبكى فى صمت ـ تماماً مثل الآخرين ـ.. وربما الخلاف الوحيد هو أننى أكتب، وأننى لم أمت مثل بعض رفاقى فى حرب العبور، أو مثل «محمد اليمانى » الذى اختفى جثمانه فى بقعة غير معلومة، بعيداً عن بورسعيد التى ولد فيها، وسيناء التى قاتل على أرضها، ومصر التى عشقها... مازلت أحيا... وأتفرج .
أن فيلم « العصفور» وثيقة فنية وتاريخية هامة تؤكد أن الفن الصادق يتجاوز حدود الزمان والمكان، أنه شريحة مقطعية فى تلك الفترة المفصلية التى عاشتها أمتنا، وتكاد أغنية «مصر يا أمه يا بهية» أن تكون أغنية كل العصور، بما فيها من شجى ومعنى وإستقراء لواقعنا، بل وبما فيها من إصرار وتحد فى وجه المحن...
لقد أطلق يوسف شاهين «العصفور» من قفصه فى لقطة معبرة، وكأنها دعوة أو أمنية أو رسالة، ولا يدرى أحد أين ذهب ذلك العصفور إلى درجة الشك فى أنه قد غادر القفص أصلاً، وإن كنت أرى أن ذلك العصفور لا يزال حبيساً فى أقفاص أخرى، فى القفص الصدرى يغرد بأغنيات الزمن المقبل، يحلم بالأفق والأشجار والتحليق، يدندن من حين لآخر فى الذكرى السنوية أنشودته الخالدة: «مصر يا أمة يا بهية ".
* عضو اتحاد الكتاب المصرى.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة