يحاول البعض أن يضيفوا بعدا أعمق لظاهرة الإرهاب، فيتحدثون عن الفقر أو القهر أو الجهل أو الاحتلال كمبررات لظاهرة القتل العشوائى الذى يصيب الآمنين فى الأسواق والشوارع، ولكن هذه المبررات وحدها لا تكفى.
فالإرهاب فى جوهره يعبر عن ظاهرة (رفض الآخر)، وهذه الظاهرة لم تكن موجودة بهذا الشكل الصارخ فى مجتمعاتنا منذ ثمانين عاما، عندما كان الفقر أشد والقهر أكثر والجهل أوسع والاحتلال واقع رسمى ملموس يوميا يتحكم فى مقدرات كل شعوب المنطقة العربية.
وقتها كانت حركات المقاومة حتى المسلحة منها تفرق بوضوح بين مقاومة جيوش الاحتلال وبين استهداف الجاليات الأجنبية، تفرق بين (الآخر) الذى يحتل بشكل مباشر، وبين (الآخر) الذى يعيش بيننا ويختلف عنا فى اللون والجنس والعقيدة ونمط الحياة، ولكن هذا الاختلاف لا يجعله (آخرَ) مرفوضا، ولعل هذا التصالح مع الآخر فى مجتمعاتنا جعل من بعض المدن العربية واحة للجاليات الأجنبية، كما حدث فى مسقط رأسى مدينة الإسكندرية التى كان ثلث سكانها من الأجانب ولم تسجل فى أقسى فترات المقاومة ضد الاحتلال البريطانى حادثة واحدة للاعتداء على الأجانب باسم مقاومة الاحتلال، رغم أن الاعتداء على الجنود البريطانيين كان واقعا يوميا فى بعض فترات المد الوطنى خصوصا فى منطقة قناة السويس.
هذا التصالح مع الآخر فى العشرينيات كان له وقائع ملموسة فى مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية، ففى نهاية العشرينيات أصدر اثنان من المفكرين المصريين (هما الدكتور طه حسين والشيخ على عبد الرازق) كتابين أثارا ضجة بالغة فى الأوساط الدينية وجلبا عليهما غضبا عارما من التيار المحافظ الذى هاجم الكتابين بعنف، واعتبر أن الآراء الواردة فيهما تخرج عن صحيح الدين، حدث الهجوم الكبير على الكتابين والكاتبين.
جرت مواجهات فى الصحف وطلب البعض تحويلهما للمحاكمة، ولكن لم يحدث قط أن تم تهديد أى منهما، كان الدكتور طه حسين والشيخ على عبد الرازق آمنين تماما على حياتهما من دعوات القتل والتهديد والتكفير.
لماذا جرى ذلك فى العشرينيات، بينما تغير الموقف تماما فى التسعينيات، فعندما خرج آخرون بآراء أثارت غضب بعض المنتمين للأوساط الدينية والمحافظة كانت النتيجة مأساوية، فتم اغتيال الدكتور فرج فوده بسبب كتاباته المناهضة لتيار الإسلام السياسى، ونجا نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل فى الآداب من محاولة اغتيال بعد أن أخرج الأطباء السكين من رقبته، واضطر الدكتور نصر حامد أبو زيد للهرب من مصر واللجوء إلى هولندا، بعد أن طاردته التهديدات وحامت حوله نذر الموت.
لماذا تغير الموقف بهذه الطريقة، وما الذى جعل نفس الأجنحة الدينية والمحافظة فى المجتمع المصرى تبدو متحضرة فى اختلافها مع (الآخر) فى العشرينيات، وتبدو غوغائية وعنيفة مع (الآخر) فى التسعينيات، هل مرور ستين عاماً على العصرين تجعل المجتمع يتطور ويتحضر أم يتخلف ويتراجع فى سلم الحضارة، فى هذا السؤال يكمن جوهر المشكلة.
أعتقد أن هذا التطرف فى رفض الآخر وإبعاده جاء فى مرحلة معينة من تاريخنا خلال منتصف القرن العشرين، عندما انحسر الاحتلال الأجنبى وأصبح العسكريون هم الذين يهيمنون على الحياة السياسية فى معظم البلدان العربية، عندما أصبحت الآلة الإعلامية فى دول كثيرة تطرح هذه المعادلة البسيطة: "من يعارض الزعيم فهو خائن للوطن"، وأصبح من السهل الطعن فى وطنية المعارضين (الآخر السياسى) والتنكيل بهم بالقتل أو الاعتقال أو حتى بتشويه الصورة والاتهام بالخيانة.
وعندما تغيرت الأوضاع ووصلت بلادنا العربية إلى الانهيار السياسى والعسكرى والاجتماعى والثقافى نمت حركات الإسلام السياسى، فقد وجد الناس فى التدين سلوى عن الأحلام القومية المجهضة، ولكن تم استخدام نفس المعادلة التى تقصى الآخر، ولكن باختلاف بسيط: "من يرفض مبادئ حركتنا فهو كافر"، وبالتالى أصبحت عملية إقصاء الآخر ورفضه والتنكيل به وإهدار دمه جزءا أصيلا من حياتنا السياسية التى يقوم بها الحكام.
والمعارضون على حد سواء داخل نسيج المجتمع الواحد، فما بالك بإقصاء الآخر الموجود فى مجتمعات أخرى، هذا التطرف فى رفض الآخر وعدم التعايش معه لم يعد ظاهرة محلية داخل مجتمعاتنا فقط، ولعل جملة الرئيس الأمريكى جورج بوش وهو يدشن حربه العالمية ضد الإرهاب: "من لم يكن معنا فهو علينا"، هى نموذج صاخب وزاعق لهذا الرفض للآخر الذى يعتنقه المتطرفون.
*** من مقدمة كتاب صناعة الموت تجربة حياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة