معصوم مرزوق

الزمـــار

الإثنين، 28 يونيو 2010 07:18 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يحكى أن رجل دين وقوراً جلس للوعظ بين مريديه، وبعد أن انتهى من درسه الدينى المؤثر الذى مس كل القلوب فتفاعلت معه، سأل الحاضرين: "من يريد منكم دخول الجنة فليرفع يده".. فرفع الجميع أياديهم بسرعة وحماس باستثناء شاب... فسأله الشيخ: "يا بنى.. ألا تريد أن تذهب إلى الجنة بعد موتك؟".. فرفع الشاب يده بسرعة قائلاً: "ظننت أنك تسأل عمن يريد الذهاب الآن؟"..

هذا الشاب – كما تحكى الرواية – فقير معدم لا يملك من الدنيا ما يغريه بالبقاء فيها، يائس من جدوى حياته، ولعل ذلك كان السبب فى أنه يتردد من حين إلى آخر على حلقة الشيخ عله يجد سلوى أو خلاصاً، ومع ذلك فهو ليس عاطلاً تماماً عن أى موهبة، فقد ورث عن أبيه مزماراً، كان يجيد العزف عليه ألحاناً شجية مؤثرة تستميل القلوب وتثير المشاعر، وتتيح له بعض الدنانير التى يقذفها بعض المستمعين، والتى كانت رغم قلتها تساعده على ما يقيم أوده ويستر عورته..

كان يحلم بأنه ذات يوم سيستبدل عشته الصغيرة ببيت من الطوب يضع فيه بعض الأثاث، وأنه سوف يتقدم لخطبة "سوسنة" من أبيها المزارع الفقير، رغم أنه لم يعرف أبداً حقيقة مشاعرها نحوه، كما أن أباها لم يكن ليرضى بزوج فقير يدور فى الأسواق بمزماره كى يتسول عطف الناس.. لكنه لم يتوقف عن الحلم..

كانت نغماته كأنها قطرات دمه تنزف من بين ثقوب المزمار، حين يعزفها يغمض عينيه ويصبح وجهه والمزمار كتلة واحدة متفاعلة، لدرجة أن بعض الناس كانت تقــول عنه: "إنه يعزف نفسه".. تنتقل أصابعه الطويلة الرقيقة فى سرعة ما بين الثقوب، وهى تحبس الهواء عن بعضها وتخلى بحذر عن البعض الآخر، وأحياناً يتماوج برأسه مستمتعاً وقد انتشرت ابتسامته كضوء يشع من كل ملامح وجهه، وأحياناً يبدو كمن يمتص حافة المزمار وكأنه يستحلبه، وأحياناً يبدو كمن يقبله..

نصحه الناس أن يتعلم حرفة أو يتبع طريقة الرفاعية على الأقل كى يتكسب من مزماره باستخدامه فى استخراج الأفاعى والثعابين من الشقوق، كان يقول لهم ضاحكاً: "أريد بأنغامى أن أستحضر الملائكة وليس الثعابين"، فينصرف عنه الناس ضاحكين ساخرين من قلة حيلته وأوهامه التى ستقتله جوعاً ذات يوم..

كانت أروع لحظاته عندما يعود إلى عشته منهكاً بعد نهاية نهار طويل، فيستلقى على الأرض محدقاً فى النجوم التى تتبدى له من سقف العشة المفتوح، ثم يســتدعى وجــه "سوسنة"، ويرخى لخياله العنان كى يراها جالسة أمامه فى بيت من الطوب تنصت لنغمات مزماره وعلى شفتيها تلك الابتسامة الساحرة..

كان لا يريد أن يموت قبل أن يحقق هذا الحلم، ولهذا يتمسك بالحياة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة