فريد أبو سعدة يكتب: عن الساحر أو المنسى قنديل

الأحد، 27 يونيو 2010 12:43 ص
فريد أبو سعدة يكتب: عن الساحر أو المنسى قنديل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
محمد المنسى قنديل زهرة كتاب المحلة، وبهجة الزمن الجميل، التقيت به فى أوائل الستينات (فى سنة ثانية ثانوى) ومن يومها لم نفترق، هذا الفتى النحيف كان "ندِّى ونديمى"، قدمنى إلى صديق صباه الباكر جار النبى الحلو وأصبحنا معا نذاكر فى بيت جار، حيث نور الكهرباء الذى لم يكن دخل بيوتنا بعد، كان جار ولايزال مجنوناً بالكرة وكنا أنا والمنسى مجنونين بالشطرنج، وقتها كنت أكتب الشعر وكانا يكتبان القصص القصيرة ولم نلبث مع الالتصاق الدائم أن كتبت القصة إلى جانب الشعر وكتبا الشعر إلى جانب القصة واستمر هذا حتى سألنى جار ذات مرة: قل لى بجد هل أستمر فى كتابة الشعر؟ فقلت له بحسم: لا
كنت أنقل لهما ما تعلمته من الأوزان العروضية وكنا على سبيل الدعابة ننادى الجرسون بالنقر على طاولة المقهى نقرات تساوى الحركة والسكون فى تفعيلة من تفاعيل الخليل، أنا مثلا -0 -0 - - 0 (مستفعلن) وجار - - 0 – 0 (فعولن) وهكذا.

كان المقهى لوالد صيقنا يحيى بستان، عملنا بها مكتبة صغيرة، ومجلة حائط نكتب فيها أشعارنا وقصصنا، ثم نلعب الشطرنج ولا نكف عن الكلام.

كنا نقرأ الكتب نفسها ونشاهد معا مسرحيات الستينات، كنا نتحاور فى كل شىء، فى ما نكتب وفى ما نقرأ، بل وصرنا نكتب خطابات نسميها (خطابات منتصف الليل) نواصل فيها الحوار، ونقوِّى حججنا بهدوء، ونسلمها لبعضنا البعض فى اليوم التالى! وعندما ضاقت المحلة عن أحلامنا فى استيعاب اللحظة الثقافية، كنا نذهب إلى القاهرة، فعلنا ذلك لنرى مسرحية (ليلة مصرع جيفار)، وأخذنا نتحايل أنا والمنسى للذهاب إلى القاهرة، مرة بكرنيهات طلبة ليست لنا نركب بها القطار، ومرات بـ(التسطيح) على القطار لنرى مسرحية (الفتى مهران) و(سليمان الحلبى) ونقضى ما تبقى من الليل مع عم المنسى (المناضل العمالى) فى شقته بشبرا الخيمة.

كان المنسى مولعا بالمسرح وكنت مولعا بالفلسفة وعلم النفس، وكنا - بعد المذاكرة فى بيت جار- نتجول فى شوارع المحلة فى الليل، أحدثه عن قراءاتى ويحدثنى عن قراءاته.

كان ولعه بالمسرح مبكرا جدا ، يقول جار النبى (وكان زميله فى مدرسة الأقباط الأعدادية) ان المنسى كان يمسرح القصة المقررة ( زهرة من الجزائر) ويحولها إلى حوار، يقوم هو وجار وبعض التلاميذ بتمثيلها صباح كل يوم- فى الاذاعة المدرسية- قبل دخول طوابير المشاهدين إلى الفصول!

كما أنشأ (مجلتى) مع جار أيضا، ونشر فيها القصص التى كانوا يؤلفونها، ونقل إليها (بطريقة الشف) الرسوم والكاريكاتير من صباح الخير، كما زودها بالأخبار والقصص المصورة (الاستريبس) التى كان يرسمها بنفسه، أما التوزيع فكان مضموناً، فالمجلة كشكول يتكون من مجموع صفحات (الدبل باج) المنزوعة من كراريس التلامذة المساهمين فى المجلة! كان قارئاً نهماً، وبارعا فى الحصول على الكتب، فبالإضافة إلى تردده على مكتبة البلدية- العامرة وقتها - استطاع هذا الفتى النحيف أن يمتّن علاقاته بباعة الكتب فى المحلة: محمد ابو العلا وطلعت قنديل، وكان مثلى يؤجر الكتب بثمن زهيد إذا التزم بعدم فتح ملازمها، وبثمن اكبر إذا اضطر إلى فتحها!.

أطلعنى مرة على أحد كنوزه، فتح أمامى صندوقاً هائلاً ممتلئاً بمجلات روزاليوسف وصباح الخير و"كتابى"، ومنحنى الفرصة لقراءة القصص والروايات المسلسلة لإحسان عبد القدوس ومصطفى محمود وفتحى غانم وصبرى موسى و محمود السعدنى وغيرهم.

لا شك أن مدرسة روزاليوسف كانت المؤثر الأول فى كتابة المنسى قنديل، الرشاقة، وبساطة التركيب النحوى، والميل إلى الشياكة والشاعرية، وهى السمات التى ظلت تطبع أسلوبه ولغته منذ التقيته فى مقتبل الستينات وحتى الآن.

يكتب بخط أنثوى منمنم، وبجرأة يحسد عليها، بلا شطب أوتعديل إلا فى النادر، وكأنه إنما ينقل ماكتبه سلفا فى رأسه!
كان أكثرنا ولعا بالتجريب، ويطوع فى كتاباته ما يروق له من تقنيات الرواية الجديدة -آن ذاك- عند آلان روب جرييه ونتالى ساروت وفرانسواز ساجان وغيرهم.

كان ليبرالياً عندما كنا ميالين لليسار، وهو ما جعله بمنأى من غواية الواقعية الاشتراكية المقررة وقتها، والتى حدّت من تحليقنا جميعا، وإن بدرجات مختلفة، ظل وفيا لرؤيته الانسانية، منطلقا من عالمه الفقير، راغبا فى نقده وتجاوزه إلى أفق رحب ورحيم، دون الوقوع فى الصراخ أو المباشرة، أوالرضوخ للطقوس الأيديولوجية.

فى عام 1965ذهبنا إلى إلى نادى الأدب بقصرالثقافة، كان يرأسه أحمد عصر و يضم الجيل السابق علينا : رمضان جميل، سعيد الكفراوى، محمد صالح، أحمد الحوتى، نصر أبو زيد، جابر عصفور، بكر الحلو، محمد الشطوى، سعد السياجى
كانت نقلة هامة فى حياتنا ، كانت المناقشات امتحانا حقيقيا للتجربة، مجموعة من الصقور تتعاور النصوص، لكنها كانت فرصة للوعى بما ننجزه وما نطمح إليه ، وفرالنادى امكانية لقاء كتّاب من المنصورة ودمياط، ودعوة كتّاب وشعراء ونقاد من القاهرة، الأمرالذى جعلنا نتماس مع اللحظة الراهنة فى الكتابة خارجنا، بل وخارج المحلة.

خارج النادى نواصل التجمع - كمجموعة من الصقور- فى بيت سعيد الكفراوى ورمضان جميل ونصر أبو زيد، ومعظم الوقت فى حجرة جار النبى الشهيرة، التى كنا أنا والمنسى شهوداً على بنائها فوق السطح.

المنسى طاقة هائلة فى الكتابة، يجرب ويكتب فى كل شىء تاركا عالمه يتنفس تحت سموات مختلفة: القصة، والرواية، والسيناريو، والتاريخ، وأدب الطفل، وأدب الرحلات كتابته للتاريخ تشى بقراءة خاصة، واسعة وعميقة للتراث العربى، كتابة أعادت إلى الوقائع القديمة روحا جديدة، ونبضا هرب من صفرة الأوراق، واتاحت تأويل الشخصيات كسؤال وجودى مؤرق، مشروط بالزمان والمكان، فعل هذا فى كتبه البديعة "شخصيا ت حيّة من الأغانى" و"وقائع عربية" و "تفاصيل الشجن فى وقائع الزمن" والمنسى أول من كتب للأطفال فى المحلة، واتاح الامكانية للجيل التالى لسلوك نفس السبيل.

الغريب أن ولع المنسى بالمسرح لم يتأدى به إلى كتابة المسرح وإن ظل بتقنياته كامنا تحت كل مايكتبه ، كامنا فى باطن النصوص، يقودها، وينفّضها من الثرثرة، ويعكس عليها من حيويته الدرامية الدافقة.

كان لا يزال طالبا عندما حصلت قصته " أغنية المشرحة الخالية" على المركز الأول فى مسابقة نادى القصة عام 1969، فرحنا، وشعرنا بالفخر، وعلقنا صورته وهو يستلم الجائزة فى مقهى "اللوفر" المقهى الذى نجتمع فيه، علقها حمودة صاحب المقهى بنفسه ووزع المشروبات على الجميع مجانا.

وفى العام نفسه فازت مجموعة من كتّاب "نادى الأدب" بقصر ثقافة المحلة فى المسابقة التى نظمتها الثقافة الجماهيرية ، فاز المنسى بالجائزة عن قصته "سعفان مات" وفزت أنا بجائزة شعر الفصحى، وفاز نصر أبو زيد( المفكرالإسلامى الآن) بجائزة شعر العامية!

كان اعتداد المنسى بالكتابة هائلاً، مؤمنا بمصداقيتها إيمان الشيخ العارف، فهذا الشاب الفقيرعندما أدخله المجموع كلية المعلمين لم يرض بنصيبه، كان يعرف أن الخلاص من الفقر مرهون بالتخرج من كليات القمة، وقبل التحدى، أعاد السنة، وبالفعل دخل كلية الطب وصار طبيباً، أصبح المستقبل واعداً أمام الطبيب الشاب، ولكن ما أن عمل سنتين فى المنيا والقاهرة حتى فاجأ الجميع بترك المهنة والتفرغ للكتابة!






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة