عندى إحساس يقينى أننا جميعاً مجرد كومبارس فى ملهاة عظمى، يتلهى بها كبار محتكرى مصر، يتركون الحبل على غاربه للذين يتكلمون عن فساد هنا وصفقة هناك، ولكنهم مشغولون حتى الرأس فى نهب ما يمكن أن ينهبوه قبل أن تحل ساعتهم.
يعرفون أن الحال الذى عليه مصر اليوم لا يمكن أن يبقى طويلاً، ولا هى دامت لغيرهم حتى تدوم لهم، ويعرفون أنها حالة استثنائية لا يمكن أن تتكرر إلا بعد ألف سنة، ويعرفون كلصوص محترفين أن الفرصة اليوم مواتية لحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه، وهم مشغولون بشىء واحد فقط لا غير: أن يسرعوا الخطى فى سرقة ما تبقى خارج نطاق السرقة، ويصرون على أن تبقى مصر منهوبة حتى النفس الأخير.
هؤلاء لا يشغلهم الكلام عن فضائح الحكومة، ولا تنغص عيشتهم الثانوية العامة، ولا يعنيهم تسريب امتحانات الأزهر، لأن المطلوب أن ينشغل بها الناس لا أن ينشغلوا هم بها، ولا يعنيهم الكلام عن بيع جزيرة آمون، ولا عن بطلان عقد مدينتى، ولا مقتل سوزان تميم، ولا حريق سوق التونسى، ولا ترسيم خريطة مصر قطعاً لتوزيعها على المحاسيب والأقارب وأصحاب النفوذ، ما دام نصيبهم فى الأرباح مضمون، يشيلها أحدهم، وهم فى الخلفية يضحكون عليه وعلى كل الذين يزعقون فى البرية فى مواجهته.
هناك يد عليا تحرك العرائس فى مسرح الأدوات التنفيذية، هؤلاء الذين يقعون مجرد تلاميذ فى مدرسه لها أساتذة، ولها مديرون، ولها فصول، وفيها تلاميذ غيرهم، ولها قبل ذلك وبعده ناظر، يدير عملية احتكار مصر لأطول فترة ممكنة.
ونحن وأنتم فى الملهاة نلعن الثانوية العامة وأيامها، ونلعن الغش وتسريب الامتحانات، ونلعن الفساد والمفسدين، ونحيى العدل الذى أحال المسئولين الصغار عن العملية، ويترك الكبار فى أبراجهم يحركون الملهاة ويضحكون ملء أشداقهم، ويغريهم على الضحك المجنون أن تعلو أصوات اللعنات على المسئولين المقدمين كأوراق محروقة عن جرم أكبر من جرمهم.
تماماً كما يحدث فى كل شىء فى مصر، ننشغل أو نُشغَل بالفروع وننسى الأصول، ننشغل بالفرعى ونترك الرئيسى، نلعن الواجهة ونترك الممسكين بالريموت كنترول يحركون به شاشات العرض على مشاهد من مسرحية هزلية، وكل يوم تتعاظم قدراتهم الشيطانية على اشتغال دماغ الناس وشغْلِهم بالتوافه، ويتفننون فى اجتراح الانشغالات كل يوم.
مشاكلنا بسيطة، وحلولها أبسط منها، لكن القابضين على القرار قرروا أن يأخذوا فرصتهم حتى اللحظة الأخيرة ليجرفوا مصر من أى قدرة على الحل، ليبقوا هم المشكلة وهم الحل المتبقى، الذى لا أسوأ منه إلا المجهول المخيف.
دول كثيرة ساد فيها الفساد وانتشر، وبإرادة سياسية حقيقية قضت عليه وحجمت تأثيره على الحياة الاقتصادية، فانتعش اقتصادها، وفى سنتين أو ثلاث سنوات استطاعت أن تعيد الاقتصاد إلى سكة السلامة بعد أن أخذه الفساد إلى سكك الندامة الكبرى.
ما ينقصنا فى مصر ليس الحلول للمشاكل التى تفاقمت على مدار ربع القرن الأخير، مشكلتنا أن أصحاب القرار قرروا أن تبقى المشاكل بلا حل، وإلا فالحل سهل وبسيط، أن يمشوا فى عكس الاتجاه الذى يسيرون فيه وتسير فيه مصر، ثبت للأعمى قبل البصير أن الطريق الذى مشوا فيه مسدودة، وثبت باليقين أن سياساتهم فاشلة، كل حكومة تأتى لتقول إنها ستبدأ إصلاحاً لما خربته الحكومة السابقة، وكلها حكومات عهد واحد وسياسة واحدة، ونحن نصدقهم ونصدق أكثر أنهم هم السبب فى خراب مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة