مساحة شاسعة بين الوطن فى فيلم أحمد حلمى «عسل إسود» الذى يطالبنا بأن نتكيف مع كل عيوبه وفساده، لأن مصر فيها حاجة حلوة، والوطن فى فيلم «بنتين من مصر» عند المخرج محمد أمين، والمساحة تحاكى تماما الفارق بين الصحافة المعتدلة التى تنظر إلى الكوب كاملا بنصفيه الفارغ والممتلئ، والصحافة السوداء التى تؤكد دوما أن الأفق مسدود والانفجار قادم لا محالة.
خرجت من الفيلم ممتلئة بالسواد، وإحساس ثقيل يكتم على روحى، ولم أستطع الفكاك منه، تماما مثل أبطال الفيلم الذين باتوا لا يفكرون سوى فى الهجرة والفرار، منهم من يهرب خوفا من الانفجار، والآخر حاول أن يتكيف ويعيش ولكن الفساد يمنعه، والثالث يبصق على البلد قبل سفره.
من داخلى قاومت الفيلم رافضة هذا السواد المحتوم، رغم أننا جميعا نعيش تفاصيله يوميا، ولكن حوارا مقتضبا مع سائق سيارة أجرة بسيط وهو رجل جار عليه الزمن، على حد تعبيره، أخذ يحدثنى عن العيشة التى لم تعد تحتمل، بداية من رغيف العيش الذى لا يؤكل، وأولاده الذين يحتاجون بحسبة بسيطة إلى 450 جنيها للإفطار فقط شهريا، وهو يقصد هنا 15 جنيها للفول والطعمية، لم يطمح فى شىء أكبر من ذلك، وابنه الذى يدرس فى إحدى المدارس الثانوية المهنية، والمدرس الذى يبتز أموالهم للنجاح بمجموع كبير ليلتحقوا بكلية الهندسة، ويسألنى الرجل عن المدرس وقدسيته، وعن الوظيفة التى سيعمل فيها ابنه بعد التخرج مؤكدا أنه سيصبح مساعد مهندس فاشلا.
تأكدت أن محمد أمين يملك الحق فى الطرح الذى قدمه فى الفيلم، رغم سوداويته، حيث اختار قصة اجتماعية لفتاتين تعانيان من العنوسة، مثل ملايين الفتيات المصريات، حيث تدور أحداث الفيلم حول قضية العنوسة، وارتفاع سن الزواج عند الفتيات على خلفية أحداث سياسية تعيشها مصر من مظاهرات وحادثة غرق العبارة السلام 98 والهجرة غير الشرعية، والتى تؤكد أن الحياة فى مصر باتت بلا أمل، فـ«حنان»/ «زينة» و«داليا»/ «صبا مبارك» بنات عمومة وتعمل الأولى أمينة مكتبة وحاصلة على لقب الموظفة المثالية، والثانية طبيبة فى أحد المستشفيات الحكومية، وتحضر رسالة الماجستير بعد تفوقها فى الدبلومة، تنتميان للطبقة المتوسطة، وعلى قدر من الجمال، لكنهما بلغتا الثلاثين ولم تتزوجا، حيث عاشتا فى مجتمع شرقى يحرم علاقة الصداقة بين الولد والبنت، وتتعاملان مع الثقافة الجنسية باعتبارها محظورات لا يجب الاقتراب منها.
ونرى حنان أو «زينة» كلما تحصل على مكافأة تذهب لشراء «قميص نوم» غالى الثمن، وتضعه فى «الدولاب» ومؤرخ عليه تاريخ الشراء، وكل ما تتمناه هو اليوم الذى تحلم فيه بارتداء هذه الملابس لزوجها، الذى تتخيله فى العديد من الوجوه التى تصادفها، سواء فى المواصلات العامة أو زملائها فى العمل، ولا يختلف الحال كثيراً بالنسبة للدكتورة داليا أو «صبا مبارك»، التى رغم تفوقها الدراسى يظل حلم حياتها الزواج، وتصادف الكثير من النماذج السلبية لشباب أصبح ضحية الازدواجية الاجتماعية التى باتت تحكم تعاملاتنا.
يرصد الفيلم أيضاً حالة الوجع التى يعيش فيها المصريون بعيداً عن أى فرص حقيقية للتحقق والتواجد الإنسانى، ورغبة الكثير من الشباب فى الهروب وترك البلد يغرق، لأنه- على حد تعبير أحد الأبطال- وصل إلى المنحدر ولن ينقذه شىء.
ويحفل الفيلم بإشارات عن التعذيب فى أقسام الشرطة والإهانات التى يتعرض لها المواطن، دون وجود رادع للظلم، ويبدو العمل شديد القتامة، كما يمتلئ بخطاب شديد الأخلاقية والمحافظة فيما يتعلق بعلاقة الرجل والمرأة.
ويركز محمد أمين فى جمله الحوارية على الوازع الدينى والأخلاقى، مثل مشهد ذهاب زينة إلى الطبيبة النفسية، عندما تسألها عن الجنس فى حياتها فتقول لها «الجنس مقدور عليه فى إشارة إلى العادة السرية- أما الحرمان الحقيقى فهو الحرمان العاطفى» وحواراته الأخرى تؤكد أنها تعيش تحت ثقل فكرة العقاب والثواب والجنة والنار، وتدين فكرة إقامة علاقة خارج إطار الزواج الرسمى الذى ترضى عنه المؤسسة الدينية، حتى لو كان عبر الزواج العرفى أو المسيار، من خلال الشخصية التى قدمتها جيهان سلامة، الطبيبة التى تتزوج عرفيا من طبيب زميل لها، لكنها لا تمارس معه علاقة جنسية كاملة لتحافظ على بكارتها. محمد أمين رغم أن فيلمه يحمل رصدا وإدانة كاملة للنظام السياسى وتحميل جزء كبير من الفساد الذى نعيش فيه لأخطاء ثورة يوليو من خلال إطلاقه اسم جمال على كل الشخصيات التى ارتبطت بهم صبا مبارك، فإن الفيلم لم يحفل بصورة بصرية متنوعة، واعتمد فى توصيل أفكاره على الحوار أكثر من الصورة، خصوصا فى الجزء الأول منه، وهذا أدى إلى تكرار المعلومات والتأكيد عليها فى أكثر من مشهد، كما أن الشخصيات فى جزء كبير منها تتحدث بلسان المخرج ووجهة نظره وليس بمنطق الشخصية، إلا أن محمد استطاع فى نفس الوقت إدارة ممثليه بدرجة عالية من الحرفية، حيث أجادت زينة وصبا التى تقدم دورها الأول فى السينما المصرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة