وأنا صغير السن فى مقتبل حياتى كنت من حين لآخر وبدون مناسبة أهتف بصوت عال أو حتى صارخا: «لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا».. لم نكن نعرف من الحياة سوى براءتها ووجهها الجميل الذى يمتعنا بكل مزايا الطفولة والصبا والشباب.. تاركين لأهلنا الوجه الآخر لها دون أن نعرف أن لهذه الحياة عدة وجوه.. كنا ننظر من بعيد إلى وجوه الكبار وهى غاضبة أوحزينة ليوم أويومين أوحتى لأسابيع ثم تعود الانفراجة الطويلة مرة أخرى، ولم يكن يعنى ذلك لنا شيئا، فنحن لنا عالمنا، وهم لهم عالمهم، والدنيا تسير دون صدمات أو كوارث إنسانية.. وفى الرياضة كنا نمارسها فى المدرسة ثم أحيانا فى الجامعة.. ونسعد جدا عندما يقترب لقاء القمة بين الأهلى والزمالك.. وكانت مجموعة الأصدقاء خليطا من الانتماء للناديين، تتفوق الصداقة على الانتماء، فتكون الفرجة حماسية جميلة، يضايق الفائز المهزوم على سبيل الفكاهة والنكتة والرغبة فى إكمال ساعات السعادة.
كبرنا وتغير كل شىء.. كشفت لنا الدنيا عن وجهها الآخر.. وكشفت لنا تكنولوجيا الإعلام عن بشر آخرين غيرنا، وجوههم باسمة نضرة تجرى فيها الدموية.. وعرفنا السبب.. وهو أنهم أحرار لهم قيمة، آمنون فى شوارعهم وبيوتهم وعملهم.. بينما نحن دهستنا السنين وهرسنا القهر والخوف على أنفسنا وعلى أولادنا.. حتى الرياضة أصبحت مشقة وتعذيبا وتكريسا للعنف والإيذاء.. أصبحنا فى «مونديال» العنف.. مونديال يومى ليس كل 4 سنوات، ولا كل سنة، ولا كل أسبوع.. أصبحت السرقة والنشل والثأر جرائم رحيمة أمام تطور مذهل فى جرائم حديثة لا تخلو من إبداع.. عرفنا فى زماننا تقطيع الأزواج وتكبيس القطع.. وعرفنا السنج مرفوعة فى وجوهنا نهارا جهارا.. وعرفنا المخدرات تجارة علنية فى الشوارع.. وعرفنا أشكالاً وألواناً من حالات الانتحار.. وعرفنا الموت من الجوع.. وسمعنا حفلات الشذوذ والشعوذة.. ثم فوجئنا بأن نهر النيل يمكن أن يتوقف عن السريان.. وغيرنا خريطة الأعداء والأصدقاء.. ثم نحن الآن فى أحد شوارع ملامح تطور الجريمة.. جمهور يحرق جمهوراً من أجل مباراة كرة، ومشجع يحرق مشجعاً ليمنعه من دخول مباراة.. ثم نحن بصدد دخول مرحلة التوحش.. أصبح التعذيب عقيدة.. نعذب أنفسنا ويعذبنا من يفترض أن يحمينا.
خالد سعيد أحدث حالة تعذيب.. الجديد فيها أنها علنية وليست فى غرفة سرية.. هى تطوير سريع للتوحش أن تتعذب وتموت فى ميدان عام وأمام جمهور، ولا يحدث ذلك حتى للجاسوس الخائن.. رسالة واضحة ومفهومة أنك أيها المواطن يمكن فى لحظة أن تتحول إلى خالد سعيد.. هذا يدعو إلى الدهشة.. فالقاتل أيضا مواطن وإنسان من فصيلة البشر فكيف يتحول فجأة إلى فصيلة حيوانية مفترسة.
خالد سعيد تعذب ورحل.. وتركنا نتعذب من الخوف.. ونسأل أنفسنا أين نذهب وبأى شىء نحتمى وإلى من نلجأ.. إلى متى يستمر مونديال القهر والعنف والتوحش.. أليس لهذا المونديال من مباراة نهائية؟
كنا نفهم أن الجريمة هدف شخصى.. المجرم يريد مالا أوجاها أوثأرا.. الآن أصبحت الجريمة نفسها هدفا، أو أن هدفها اتسع ليصبح كل المجتمع مقبوضاً عليه.. لم تعد هناك حاجة للسجون.. لأن مليون كيلومتر مربع أصبحت سجنا وحيدا كبيرا ونموذجيا للسجانين.. الآن نحن مستعدون للجوع والعطش والفقر والكبت، فهى أرحم من أن تطالعنا صور أخرى شبيهة لصورة خالد سعيد.
أعتذر كثيرا لكأس العالم الذى تسعد به الدنيا كلها.. بينما نحن لا نستطيع أن نشاهد مبارياته باسترخاء وارتياح، وكل منا يضع إلى جواره جريدة يطل منها وجه خالد سعيد قبل وبعد الإعدام.. استرها يارب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة