فى شارع المعز ترى التاريخ يتحدث عن نفسه، وترى الحاضر أيضا يضع بصمته، لكن شتان ما بين الصورتين، صورة الآثار العظيمة التى شيدها جدودنا، وصورة بصمتنا القميئة التى لا تخطئها عين، فإذا دخلت إلى الشارع العريق الذى كان فى الماضى البعيد حضنا وقلعة من الجمال الفخامة، لا تنبهر بالمبانى المزية، ولا عمليات الترميم المستمرة التى تعلن عنها وزارة الثقافة، ولا يغرك أيضا حالة الهوس الأمنى التى يفرضها العساكر وأمناء الشرطة والبوابات الحديدة والاستجوابات المتكررة للداخلين والخارجين، لا يغرك كل هذا، فعلى بعد خطوات من الشارع الرئيسى تكمن المهزلة.
اتجه من شارع المعز لدين الله الفاطمى يسارا لتدخل شارع الجمالية، أو ادخل إلى شارع الجمالية من بدايته عند باب النصر، لتمر على وكالة "كحلا"، ثم مقام سيدى عبد الكريم البرامونى وسيدى شرف الدين الكردى، وبعدهما حوش عطا، ثم خانقاه بيبرس الجاشنكير، وقبة قراسنقر المنصورى، وخانقاه سعيد السعداء، ثم شارع حبس الرحبة، المتفرع منه شارع المسمط، ثم درب الطبلاوى، وبين هذين الشارعين الضيقين يقع قصر المسافر خانة الذى كان قديما مثالا حيا للفخامة والجمال، فأصبح الآن كارثة.
هذا الأثر الذى كان "نادرا" فى جماله وروعته أصبح الآن "نادرا" أيضا، لكن فى حالته المزرية، عن هذا الأثر يقول الأديب الكبير جمال الغيطانى فى كتابه استعادة المسافر خانة كان يضارع قصر الحمرا بإسبانيا وإيوان كسرى بفارس وطوب قابى سراى بإسطنبول، لكن الآن لا يضارعه شىء فى البشاعة الإهمال والتردى، ويعود هذا الأثر التاريخى الإسلامى النادر إلى أكثر من خمسمائة عام، وبالتحديد إلى عام 1779 الذى بدأ البناء فيه، واستغرق ما يقرب من عشر سنوات للانتهاء منه فى سنة 1789م، أما بانيه فقد كان شاه بندر التجار محمود محرم الفيومى الذى أنشأ مسجدا باسمه على ناصية شارع المسمط، وبعد هذا التاريخ بقليل حوله محمد على إلى مضيفة مخصصة لاستقبال كبار زوار مصر من دول العالم لفترة طويلة، ونال هذا الأثر الفريد اهتماما خاصا من الدولة العلوية، حتى إنه شهد بأحد غرفه العلوية ميلاد الخديوى إسماعيل فى 22 يناير سنة 1829سنة، وحتى هذا التاريخ كان القصر يحمل الكثير من النماذج الفنية والمعمارية المبهرة من أرابيسك ورخام وفسيفساء وزجاج ملون بشكل يتسق مع ارتفاعه الكبير الذى كان يبلغ 22 مترا، كما كان يحتوى على أكبر مشربية من الطراز الإسلامى على مستوى العالم، ودخل اهتمام الدولة عام 1897 عندما سجلته لجنة الآثار العربية وتم ترميمه لأول مرة عام 1928 وتحول قبل احتراقه فى 22 أكتوبر من عام 1998 إلى مزار سياحى ومرسم للعديد من الفنانين، قبل أن يتم تحوله التحول الأخير المرير.
حريق المسافر خانة وأسبابه تحول إلى ما يشبه الأسطورة، البعض يقول إن السبب الرئيسى فى حدوثه هو إقامة حفلة غنائية لأحد أشهر المطربين كانت مخصصة "لعلية القوم"، وبعد انتهاء الحفل بثلاث ساعات أى فى السادسة صباحا اشتعلت النار فى المكان، بينما يؤكد آخرون أنه كان بفعل فاعل، حيث كانت إحدى الشركات تتولى عملية ترميمه، وقبل انتهاء المشروع وتسليمه نشب الحريق ليقضى ما تبقى من هذا القصر العظيم.
أما الجهات الرسمية فقالت إن النيران أتت من القمامة التى كانت بالقرب منه، وقام الأهالى بإشعالها للتخلص منها، فتطايرت لتقفز على الأسوار وتسكن بخشب القصر، أما الأهالى فيقولون إن النار جاءت من داخل المسافر خانة، وأنهم أيقظوا الحارس لينقذ نفسه ويبلغ الجهات المختصة.
قبل الدخول إلى "الكارثة" التى كانت "جنة" يمتزج فيه الخشوع بالفخامة، والآيات القرآنية وبالمسرات الدنيوية، قابلنا الأسطى حسين محمد إسماعيل، أحد أصحاب ورش خرط النحاس بحارة الطبلاوى المؤدية إلى المسافر خانة" وقال: "ظلت النار مشتعلة بالمكان لخمسة أشهر تقريبا "كل يوم تتحرق حتة"، وكنا حينما نرى الدخان يتصاعدا من الداخل نحسب أن مشعليها هم العمال الذين كانوا يقومون بالترميم وقتها، ولم نكن لنجرأ أن نسأل أو نعترض على اندلاع النار والدخان، لأننا ممنوعون من دخول "الأثارات"، لكننا فوجئنا بالمكان يشتعل من يجى أد خمستاشر سنة و"الدنيا مقلوبة" وبعدها لا من شاف ولا من درى، المكان تحول إلى خرابة، ولا أحد يسأل فيه، والروائح العفنة تشع منه لكننا "فى حالنا"، وأنا عن نفسى مبحبش أدخل جوه، عشان المشاكل".
أما عم سعد حسن، أحد سكان المنطقة القدامى، فتذكر أيام مجد "المسافر خانة" قبل حريقها الشهير، وقت أن كانت محط اهتمام الفنانين الذين كانوا يتهافتون على تصوير الأفلام والأغانى بها، ويتذكر حينما كانت مرسما للفنانين المشهورين وكانت المنطقة كلها تنعم بالهدوء والسلم والجمال، أما الآن فيقول عم سعد: "كل حاجة وحشة بتتم جوه، تعالى الساعة 2 باليل تلاقى هنا مهزلة بيرتكبها "الشباب المنيل" كل يوم"، ويفسر عم سعد هذه المهزلة فيقول: "يأتى بعض الشباب الصيع فى مجموعات صغيرة، ويدخلون إلى المكان ليشربوا المخدرات والخمور، والله أعلم إيه تانى بيحصل جوه، لكن لا أحد من أهالى المنطقة يجرؤ على الدخول إلى هذا المكان، خوفا مما يحدث بداخله، وهذه الحالة "المنيلة" والدرب كله فى حالة تصدع حتى البيوت القديمة الموجودة بداخله آيلة للسقوط، والحكومة تركته هكذا منذ سنوات، منتظرين أن يقع على رءوس ساكنيه".
الخوف من الممارسات الإجرامية التى تتم بداخل المسافر خانة تسيطر على أهالى درب الطبلاوى، لكن على حد قول عم "سعد" "هنعمل إيه يعنى؟.. هنقوم نخرجهم؟ دول عيال صايعة ومحدش قادر عليهم، ولا حتى الحكومة"، عم سعد يتحسر على ماضى المسافر خانة ويقترح على الحكومة أن تهدمها وتبنى بها "شوية مساكن للغلابة" "بدل ما هما سايبينها كده خرابة".
فى الداخل تأكدنا من أن لفظ "خرابة" الذى قاله عم سعد لم يكن الأنسب فى الوصف، فكل ما يمكن أن تتخيله من قاذورات موجود هنا وبكثافة، والباب الذى قال عنه الغيطانى: "إنه كان مثل البسملة التى تسبق قراءة القرآن أصبح منبعا للروائح العفنة وأكوام القمامة، ويصف الغيطانى حال القصر والأساطير التى سمعها عنه فى أيام صباه فيقول: "الحكايات عديدة، عن كنوز من الزمن مطمورة تحته، وممرات تحت الأرض وأخشاب لا نظير لها، وكتابات سحرية فوق الجدران أما الآن فأول ما تراه عند دخولك إليه هو القمامة والقمامة لا غير، وبالداخل ما هو أقذر".
فناء متسع لا يلفت النظر فيه سوى علبة "بيرة" مازالت تحتفظ بداخلها ببعض القطرات، ما يدل على أن شاربيها كانوا هنا حتى وقت قريب، ربما يكون بالأمس، الأرضيات الرخامية منزوعة بالكامل، ولا يوجد إلا عتبة صغيرة من الرخام الأبيض والأسود، فى يمين الداخل نخلة ملقاة على الأرض، كدليل على جمال القصر فى السابق، فأحيانا يتمسك المكان بجماله حتى النهاية، زجاجة دواء تحمل اسم "أوسيكيت" ملقاة على الأرض، بعدها بقليل شريط برشام فارغ، إلا أن غطاءه الفضى مازال محتفظا بكامل أجزائه، ما يدل على أن متعاطيه تناول ما به من أقراص دفعة واحدة، وفى الأعلى ترسان ضخمان من الخشب كانا يستخدمان فى الطحين، ثم شريط برشام آخر كامل غير منقوص، يبدو أنه وقع من أحدهم قبل الاستخدام، وجدناه فى الطريق إلى الأعلى ويحمل اسم "كلونازيبام"، بجواره زجاجة بيرة مازالت محتفظة بالورقة الملتصقة بها نظيفة، وزجاجة دواء تحمل اسم "برونكوفين"، حاولنا أن نصعد إلى الغرف العلوية حيث ولد الخديوى إسماعيل، فسمعنا نباح كلاب يدل الصوت على أنها بالأعلى، وقبل أن أفكر فيما أفعل هرولت ثلاث كلاب مسرعة ناحيتنا لتعترض الطريق كما لو كانت تطرد المتطفلين فى النهار، وكأن لسان حالها يقول للبشر لا تزعجونا فى النهار، ويكفى ما يحدث بالليل.
محاولة الصعود إلى الطابق الأعلى باءت بالفشل، فبصرف النظر عن تهالك الجدران والسلالم، وبصرف النظر عن الثلاث كلاب التى هرولت إلى الأسفل مسرعة وبصرف النظر أيضا عن الروائح الكريهة المنتشرة فى المكان، كانت فى الأعلى "كلبة" ترعى أطفالها حديثى الولادة، تقريبا فى ذات المكان الذى شهد ميلاد الخديوى إسماعيل البانى الحقيقى لمصر الحديثة، وفى الأسفل كانت المفاجأة، إذ وجدنا مرتبة معدة للنوم وبجوارها علبة سجائر كيلوباترا، وقليل من بقايا الفحم والرماد.
المشى فى الأسفل وإن كان أقل رعبا من الأعلى إلا أنه أكثر قذارة وامتلاء بزجاجات الدواء الفارغ، وكعادة المصريين فى الرغبة فى الخلود كتب أحدهم اسمه "حسن" ورقم تليفون "01485....." كدليل إثبات على أنه مر من هنا وجلس بجوار الأرفف الخشبية المزنية بأشكال العقود النصف دائرية، وبجوار المكان الذى مر به حسن، يوجد "كنبة فوتيه" قديمة وأمامها أيضا آثار فحم محترق، لكن أشد المشاهد المحزنة والمؤلمة والقذرة هى حالة الساحة الرئيسية للمكان الذى كان به النافورة الجميلة، فحل محلها جثة كلب نافق وتاج العمود الذى كان يحمل أجمل مشربيات العالم الإسلامى، منكسرا على الأرض يحمل الكثير من الجمال برغم ما به من تردى.
المكان بالكامل متهالك والأعمدة الرخامية المزخرفة مكسورة ومهدمة، والكتابات الأثرية منزوعة، وعشرات من زجاجات الدواء تحمل اسما لاثنين لا ثالث لهما هما "برونكوفين وأوسيبكت" والعديد من علب البيرة، وزجاجات الخمر وأشرطة البرشام، وأكوم زبالة فى كل مكان، وبين حين وآخر كنا نجد بعض السرنجات المستعملة، أما مدخل المسافر خانة من ناحية درب المسمط فتآكلت أجزاؤه العلوية، وتهدمت زخارفه التى كانت مثالا للجمال والأبهة، وتم إغلاقه بالطوب الأحمر ليزيد من قبح المكان وتشويهه.
برغم إجماع أهالى المنطقة على أن المسافر خانة أصبحت وكرا، إلا أن الحاج على سعد أحد أصحاب ورش النحاس قال: "مش وكر وكر يعنى، لكن هناك بعض الشباب العاطلين يشربون البانجو على الناصية ناحية باب المسافر خانة، ولا أعلم إن كانوا يدخلون إلى المكان أم لا، لكنى شاهدتهم مرارا واقفين هنالك عند الناصية".
أخذنا نماذج مما وجدناه داخل المسافر خانة من شرائط البرشام وزجاجات الدواء والسرنجات المستعملة وعرضناها على الدكتور محمود عبد الله، أستاذ التخدير بجامعة عين شمس، لنعرف إن كانت تحتوى على مواد مخدرة أم لا فقال: "لا بد أن نفرق بين نوعين من الأدوية الأول يؤدى كثرة استعمالها إلى الإدمان، والثانى تلك التى يبحث عنها المدمن لتساعده فى إدمانه، وإلى النوع الثانى تنتمى هذه النماذج، فدواء "برونكوفين" فى الأساس لعلاج الكحة والشعب الهوائية، وكذلك أوسيبكت الذى يعد مهدئا للسعال وموسعا للشعب الهوائية، لكنهما يحتويان على مادة مشتقة من "الكودايين" وهو من عائلة المواد المخدرة، ويتعاطاها البعض بجرعات كبيرة حتى يحدث التأثير المخدر الذى يرغبون فيه".
الدكتور عبد الله محمود يقول عن أقراص الـ "كلونازيبام" إنها تستعمل لعلاج حالات الصرع وبها نسبة مهدئ عالية، ومن أعراضها حدوث "دوخة" وضعف وعدم ثبات، ولها تأثير جانبى مثل الشعور بالاكتئاب وفقدان الاتزان، والصداع واضطراب النوم، ويضيف شأن هذا العقار هو شأن جميع البنزوديازيبينات، له مفعول مثل الكحول والمخدرات، ويؤدى فى النهاية إلى التخدير، وقد تم منعه فى كندا، أما عقار أسمولين، فهو موسع للشعب الهوائية، لكن بعض متعاطى المخدرات يقبلون عليه لما به من مادة مخدرة.
إذن فقد أثبتت شهادة الدكتور محمود عبد الله أن جميع الأدوية الموجودة فى المسافر خانة تستعمل للتخدير، فإذا أضفنا إلى شهادته هذه الكثافة من وجود الزجاجات الفارغة تأكد لدينا ما ذكره الأهالى من أن المكان فعلا أصبح وكرا لتعاطى المخدرات، والكحوليات، وحقن الماكس، ما يدل على أن هذه المنطقة التى ليس لها مثيل فى العالم تشهد انفلاتا أمنيا كبيرا، وأن جهود وزارة الثقافة فى تجميل صورة الآثار يشوبها الكثير من عدم الدقة، والأمر برمته جريمة تستوجب التحقيق والعقاب.
بالصور.. الآثار الإسلامية تتحول لأوكار لتعاطى المخدرات والخمر ومقالب قمامة.. بداخلها بقايا حقن الماكس.. وداخل الغرف "مراتب نوم" وبقايا فحم وملابس حريمى ممزقة
الخميس، 24 يونيو 2010 03:56 م
قصر المسافر خانة الذى كان قديما مثالا حيا للفخامة والجمال فأصبح الآن كارثة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة