فى حوالى الساعة الثالثة والنصف مساء الثلاثاء 15 يونيو، تجمع الآلاف من الأيرلنديين فى وسط ميدان جيلدهال بمنطقة ديرى يشاهدون البث المباشر لرئيس وزراء بريطانيا وقد وقف وسط جميع أعضاء مجلس العموم البريطانى المنتخبين (650 عضواً بما فى ذلك رئيس الوزراء الذى يمثل حزب الأغلبية) ليقول ببساطة: "بالنيابة عن بلادى أنا أسف بشدة".
كان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون قد وقف يقدم اعتذار بلاده عما بدر منها فى حق المتظاهرين والنشطاء الأيرلنديين منذ 38 عاما فيما عُرِف باسم أحداث "الأحد الدموى" حين فتح الجيش البريطانى النيران على المواطنين العزّل وأردى 14 قتيلاً وجرح 13 أخرين.
استغرقت التحقيقات فى أحداث 30 من يناير عام 1972 ما يقرب من 12 عاما واستخدمت فى تلك التحقيقات العديد من وسائل جمع الأدلة من بينها231 من أشرطة التسجيل و الفيديو لشهادات مئات من شهود العيان، كما جاء التقرير النهائى فيما يتراوح بين 20 - 30 مليون كلمة أى ما يمثل حوالى 62500 صفحة وبلغت تكلفته 195 مليون جنيه استرلينى. وعلق رئيس الوزراء البريطانى على نتائج التقرير قائلا: "لقد كان ما حدث صادماً وغير مبرر".
ولعل المشهد للوهلة الأولى يعد انتصاراً كبيراً استحقه الأيرلنديون فى تاريخ نضالهم الطويل مع بريطانيا ولكن النظرة المتأنية توحى بعدة أشياء أهمها:
- بالرغم من طول الفترة الزمنية التى مرت على الحدث الأليم وبالتالى فمن البديهى أن حكومة كاميرون الحالية لم تكن مسئولة عما حدث مسئلية مباشرة إلا أنه لم يتحرج أن يتحمل مسئليته الأدبية كاملة وأن يقدم اعتذار بلاده عن الخطأ الذى أوقعت نفسها فيه منذ أكثر من 38 عاماً.
- حجم الأموال المنفَقة والوقت والمجهود المبذولين من قِبَل الحكومة البريطانية للوقوف على الأدلة الغير قابلة للشك والوصول لحقيقة ما حدث.
- المشهد قد يبدو مكرراً أو مألوفاً بالنسبة للعالم الغربي. أخطأ مسئول فاعتذر. ولعلنا مازلنا نذكر اعتذار الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون لأنه حنث اليمين وكذب على شعبه فى شأن علاقته بمونيكا لوينسكى ومازال العالم كله يذكر استقالة نيكسون إثر انكشاف واقعة تورطه فى فضيحة وترجيت. و فى عالم شرق آسيا قدم رئيس وزراء اليابان يوكويو هاتوياما استقالته الأربعاء قبل الماضى وبعد ثمانية أشهر فقط من توليه مهام منصبه بعد أن فشل فى الوفاء بعهود حملته الانتخابية فى إزالة القاعدة العسكرية الأمريكية من جزيرة أوكيناوا جنوب اليابان. وفى عالمنا العربى وباستثناء حادثة تنحى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وإعلانه عن استعداده لتحمل مسئولية كارثة 67 فإننا لم نسمع عن رئيس حكومة أو مسئول عربى يعتذر. لم يعتذر أحد عن الوضع المأساوى فى دارفور.
- لم يعتذر أحد لآلاف من العمال الذين افترشوا أرصفة مجلس الشعب لشهور ولم يعتذر أحد عما حدث للمتظاهرين أو الصحفيين والمصورين العزل فى 6 أبريل وغيرها من الاحتجاجات السلمية. لم يعلن أحد مسئوليته عن كارثة العبارة السلام 98 أو عن أى من السياسات الاقتصادية التى لم تؤت ثمارها ولا حتى عن صفر المونديال الذى نشاهده يبث من جنوب افريقيا الآن.
وفى حادثة الشاب خالد سعيد الأخيرة، أصدرت الداخلية بياناً مفاده أنها غير مسؤلة عما حدث وألحقت به العديد من الاتهامات منها أنه متهرب من أداء الخدمة العسكرية، و هو الادعاء الذى ثبت عدم صحته بظهور شهادة تأديته للخدمة العسكرية. و كما هى العادة لم تعتذر وزارة الداخلية. والان أعاد النائب العام استخراج جثة الشاب لإعادة تشريحها و بيان سبب الوفاة. وكان الأجدر بوزارة الداخلية ألا تتسرع فى إصدار البيانات قبل إنتهاء جميع التحقيقات. و السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو ماذا لو ثبت كذب كل الادعاءات فى بيان الوزارة؟ ماذا لو أن خالد سعيد لم يمت باسفاكسيا الخنق؟ ماذا لو ثبت تورط المخبرين فى قتل هذا الشاب؟؟ هل يحاكم المسؤلون؟ هل تقدم وزارة الداخلية اعتذاراً؟ هل يعتذر اللواء حبيب العدلى؟
جدير بالذكر أن أحداث "الأحد الدموى" كانت بمثابة نهاية الاحتجاج السلمى فى شمال أيرلندا، ففى دابلن أحرق المحتجون السفارة البريطانية وانضم العديد من الشباب إلى منظمة الآى آر إيه (المنظمة الثورية العسكرية لشمال أيرلندا). شباب كانوا يعدون أنفسهم غير مهتمين بالسياسة.
