نداء خفى جبار يربط بينى وبين كتلة عجيبة من حجر الديوريت شديد الصلابة والسواد المشع، كأن ألوف الشموس السود تتوهج فى قشرته التى تكاد تكون زجاجا أسود شفافا، أغفل عنه وأنساه بعض الوقت، لكننى كلما اضطربت أحوالى وتوزعتنى الأفكار والهموم واختلطت الآراء والهواجس وأحسست بدبيب الهشاشة والضعف، سمعت النداء الخفى الجبار يشدنى إليه، فأسرع إلى المتحف إلى الركن الذى يلوذ به حجر الديوريت المذهل، وحين أصل إلى مكان التمثال، أطرح عنى هشاشتى وضعفى، ولا أعرف ساعتها من منا يأخذ مكان الآخر مواساة وتعاطف وشدَّ أزر وحمل ما ينوء به من ثقل الدهور.
يقال إنه أعظم تمثال أبدعه نحات فى تاريخ الفن، هذا الحجر الذى لان تحت أصابع النحات واستسلمت صلابته، كأن الخلود عجينة طيعة تفضى بسرها وتتشكل حسبما يقضى خيال الفنان وعبقرية يديه.
هذا الجمال الجليل الراسخ يفوق، عظمةً ومهابةً، الهرم الثانى الذى أقامه مدفنا له، مهما تكن ضخامته وشهرته، يشدنى نداؤه الجبار فأدور حوله لأراه من جميع الزوايا الممكنة، فيستولى على كيانى ولا أعرف من منا ينظر إلى الآخر، يروعنى التأمل المثقل بالتحديق طول الدهر فى الصمت والظلام ونور البصيرة، وتدهشنى الملامح النبيلة التى فهمت كلّ شىء، وسبرت أغوار الحقائق ومعانى الوجود والموت، وينفجر كيانى بحنان مكتوم وأنا أرى عينيه ثقيلتى الأجفان، وأرى احمرارهما واحتقانهما بفعل السهر والقراءة والتفكر، احمرارا نابض الشعيرات تحت سواد الحجر، وأتذكر.. كم غافلت حشود المتفرجين ويقظة الحراس وتركت رأسى بين كتفيه، يظلله جناحا الصقر المنتصر، لأحتمى برهة من شمس اليأس الفاضحة المحرقة، وأضع رأسه بين كتفى وأدور فى الشوارع، وأثقب مشاهد الدنيا بعينيه الشاخصتين اللتين لا تطرفان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة