يقدم سعيد الكفراوى فى هذه الجدارية وجوها تطفر من الزمن الجميل، يقدمها- فى لغة شعرية آسرة، مروّقة، ومغسولة بماء القلب - راصدا حركتها فى وجدانه ووعيه حتى أصبح ما هو عليه الآن.
الكتاب سيرة ذاتية يلاحق فيها سعيد ما يطفو فى لحظات الكشف من وقائع ووجوه شكلت قناعاته أو تقاطعت معها، حتى أصبح من الممكن، كما فى لعبة البازل، تكوين صورة الكاتب من خلال ثلاثين فقرة تكون هذا الكتاب السيرة.
انشغلت وأنا أتجول بين هذه الفسيفساء باستخراح التجربة دون الوقوع فى حبائل الوعى اللاحق لها، الوعى الذى يفسر به الكاتب ماحدث فى الماضى، لأنه يظل تفسيرا من تفاسير أخرى ممكنة
كنا فى نادى الأدب بالمحلة- فى النصف الثانى من الستينات- نناقش أعمالنا بعنف وقسوة، مسلحين بما يعلق فى الفضاء النقدى وقتذاك من مفاهيم ومصطلحات.
كنا خارجين للتو على الرواد فى القصة والرواية والشعر، بتاثيرمن هزيمة يونيو67 ، ومرتبكين أمام كتابة جديدة مدهشة، يدشنها جيل الستينات فى جاليرى 68 وملحق المساء، الذى كان يعده - أحد صناع هذا الجيل- طيب الذكر عبد الفتاح الجمل.
كان علينا أن نخرج على الآباء: نجيب محفوظ ويوسف ادريس وصلاح عبد الصبور، وأن نتأمل كتابة أخرى يجترحها عبد الحكيم قاسم وابراهيم آصلان وأمل دنقل ، لم يكن الأمر سهلا، ووقر فى وجداننا أن هناك بالفعل ما هو أفضل مما نكتب، دعونا بعضهم إلى المحلة وبحثنا عن الآخرين فى القاهرة، ومنذ 1969انتقلت الشلة إلى القاهرة عدا جار النبى الحلو والمنسى قنديل، الذى كان يدرس الطب فى المنصورة آنذاك، هذا الفرار إلى الكتابة الجديدة جعلنا نلتصق برموزها، الأمر الذى جعلنا نتابع تجارب الآخرين ولانتابع بعضنا البعض، مكتفين- فيما يبدو- بصورة كونها كل منا عن الآخر- فى بداياته الأولى- ولا يريد أن يغيرها بامتحان صاحبه، للوقوف على تحولات تجربته عبرأكثر من أربعة عقود!!
تفاصيل مثل حبات عقد الكارم تنوس دائما فى الوعى، مثل عقد الكهرمان، الذى كانت تلبسه أمهاتنا فيضؤهن فى الليل ، هكذا يقول الكفراوى وسأختار من هذه الحبات ما يشكل صورته.
: عشقت من صغرى قص القصص، كنت أتوسط اترابى متمثلا ذلك الشاعر الشعبى القديم، الذى كان يقف بهيا وسط احتفالية مولد السيد البدوى،،عاملا من عود الذرة ربابة، وأصدح بالصوت فى ليل قريتى، وسط بقعة من النور يضيئها كلوب دكان عبد العزيز زايد البقال، أحكى وأفتى فيما أعرف وفيما لا أعرف.
لما صلب عوده بدأ يتعرف على حروف الهجاء ، فك الخط وحفظ قصار السور، وحضر دروس الوعظ بالمسجد، وقرأ الأربعين النووية، وتباهى على أترابه من العيال بأنه قادر على دخول البستان !!
فى شعبة الإخوان المسلمين- وكنت طفلا- كان الأمير يتمتع بجسد مصارع له لحية ووجه قاس مريع، جمعنا مع بقية أمراء الأسر وأخبرنا بأنه وضع كتابا تحت الجميزة فى البستان، والشجاع منا من يحضر الكتاب فى عزعز الليل وأشار إلى !
كان البستان فى الليل مهجورا وموحشا مثل مقبرة، تنتصب أشجاره كالمردة، وأنا أقف بالقرب من السور مثل عقلة الأصبع فى الحكايات التى أقرؤها، سرت بين صفوف أشجاره، وهفت طيور فوجئت بى وأطلقت صرخات كالعويل، فجأة برز أمامى البيت الذى يتوسط البستان، قادنى فضولى فأخذت أشب على قدمى أمام النافذة، وراعنى ما رأيت، رأيت امرأة تخرج عارية تلف رأسها بشال من حرير، حين انتزعته سقط شعرها على البدن- المنطلق فى الضوء - مثل عرف فرسة فى الريح، كدت أن أصرخ صرخة تفضحنى، فيأتى أصحاب البستان ويخصوننى مثلما يخصون الجديان وكلب الدار، تصرخ ؟! إياك.. قاوم دهشتك وولع قلبك، واجتز عتبات الحلم، واخرج من بستان لبستان، انظر إلى الشواطىء لترى بنات الحور، إنها من نسلهم وربما تكون حفيدة البنت التى دفنوا الفتى الأسمر بسببها فى أرض البستان، انتزعت نفسى مرغما، وبداخلى تتضارب المشاعر مثل ماء مغلى، وخطوت ناحية الجميزة وباشرت الحفر حتى وجدت الكتاب.
كان مسكونا بحكايات أبيه عن أهل تحت الأرض والمغويات والنداهات وعاشقات الإنس المخبولات.
دفعنى صوت شاعر الربابة إلى كتاب الف ليلة وليلة، فقرأته وأنا على مشارف الصبا واحتشد وعيى حينئذ بصورالسحر والخيال، ومدن النحاس والجوارى المغنيات، والصور الحرام، والمردة الأشرار، وفك الطلسم، والدروب المغلقة بالسر والخديعة، كنت- وأنا بعد صبيا- ألهث وأنا أقرأ حكاية على الزيبق مع عزرا اليهودى حين سمعت دق الدفوف الذى أرجف قلبي، أغلقت ألف ليلة وخرجت من الدار فوجدتهم تحت شجرة الجميز العتيقة ، رجل أشيب يلف رأسه بشال، يضع كفه على خده ويرفع رأسه قليلا فيما ينطلق بالإنشاد- وأنا أندهش من الدموع التى تسح من عينيه- وامرأته النحيلة تضرب الدف بذلك الإيقاع الموزون، وابنه ينفخ مزماره بصوت ينسرب حتى دمى، كانت صدمتى الأولى، وأول معارفى بالغناء الحى المباشر.
ألحقوه - وهو طفل - بمدرسة الأقباط بمدينة المحلة حيث رأى أبونا مرقص يقف تحت شجرة زيتون ويحدث التلاميذ عن الوطن، وأن اسمه وادى النيل، كان يدخل الفصل فيصيح الشيخ رضوان قيام فينهضون فى هبة واحدة : تعظيم سلام فيعظمون المبجل الأب مرقص.
نجلس صامتين، ونراهما يتكلمان، ونسمع عبرالحديث أسماء سعد زغلول والنحاس، وحرب فلسطين، وأتعرف على طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد وسلامة موسى ولطفى السيد، وفى المحلة عرفت أيضا السينما، كنت أغادر قريتى قابضا على خمسة قروش أجمعها- بطلعة الروح- بعد أن أدور على الخالات والعمات والأعمام أستجدى ثمن تذكرة السينما.
أنستنى السينما دراستى وكنت اشحن خيالى بالأفلام والأحداث الملونة وأجساد نجمات هوليود، ثم استلقى على سريرى تناوشنى أحلام النجومية، وبأننى بإذن علام الغيوب سوف أدخل معهد التمثيل وأصير نجما مثل هؤلاء، وبالفعل بعد حصولى على الدبلوم البائس من المنصورة تقدمت لمعهد التمثيل لكنهم أخبرونى أنهم لا يقبلون إلا الثانوية العامة!
كان فى الخمسينات طالبا فى الدبلوم يدرس بمدينة المنصورة، صبيا قرويا على قد حاله وموكب الزعيم على الكورنيش ، اندفع بكل محبة الروح نحو سيارة الزعيم وحين لامس هيكلها المكشوف، يريد مصافحة الزعيم، جاءت الضربة على وجهه مثل رفسة الفرس، رمته على الأسفلت، ودمه ينزف ويحجب المشهد.
فى أواخر الخمسينات عندما شاهدت فيلم "ثلوج كاليمنجارو" شدتنى غرابة الضبع الذى يعوى مثل صوت الموت فى انتظار فرائسه، خارج السينما تأملت أفيش الفيلم وعرفت أن القصة لكاتب اسمه ارنست همنجواى ، بعدها بمصادفة بحتة وقعت فى يدى قصة مترجمة بعنوان "المعسكر الهندى" ووجدتنى أندفع ناحية الكتابة تعويضا عن خيبة رجاء نجم المستقبل الأشهر!!
كان همنجواى (مودة) الكتابة المصرية فى الستينات، وعبرنصه تشكلت مدرسة تسعى إلى كتابة مغايرة، مقاومة للقهرالإنسانى، وباحثة عن افق يمجد حرية الإنسان، ومقاومة سلطة الفرد فى زمن عزت فيه حرية التعبير.
أذكر أننى فى 1969 التقيت مصادفة بالروائى جمال الغيطانى، وكان قد أصدر مجموعته الأولى "أوراق شاب عاش ألف عام"، سلمت عليه وعرفته بنفسى، وسألته عن الأدباء الشبان وأين يجلسون، فصحبنى إلى مقهى ريش، ورأيتهم يتحلقون حول الكاتب الكبير نجيب محفوظ ، بعد عدد من اللقاءات أصبحت جزءا من فضاء الندوة.
بناء سجن طره مثل قلاع القرون الغابرة، شيوعيون وإخوان وفنانون، شعراء ورجال سياسة، ومن كل ملة ، لقد جمعت السجون كل الأضداد وكأنها صندوق مقفل من زجاج على كل ضغائن السلطان.
كانت القصة بالنسبة لجيلى سعيا للمعرفة، ومجابهة لفعل الموت، لقد مسنا سحر تشيكوف، الذى نبهنا إلى الجماعات المغمورة، أنا شخصيا لم أقرأ نصا يجسد العلاقة بين المواطن العادى والسلطة كما جسدته قصة "موت موظف"
هناك الكثير من حبات الكهرمان التى تضىء ذاكرتنا، وتعرض لنا المشهد الأخير لعالم جميل يأفل ببطء جارح، عالم يتنقل من ذاكرة إلى ذاكرة، ليسكن فى الذاكرة الجماعية، كروح للمكان تأتنس بوجوه الطيبين من أبناء هذا الوطن النبيل، وتسكب نفسها أسى عليهم
أكتب نفسى، وأهلى، وأستعين فى التعبيرعن هذا العالم بمعرفة مايكتبه الآخرون، وسوف أقيم فى ذلك الزمن الموغل فى القدم، حتى رحيلى ، مثل بطل "بورخيس" الذى آل على نفسه أن يرسم العالم، وعبر سنوات عمره المديد رسم كل شىء، وقبل أن يرحل بقليل اكتشف أن كل ما رسمه إنما كان وجهه هو!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة