تدور عجلة الزمان وهنا- فى بلادنا العزيزة- قد لا نشعر بانفلات الأيام والليالى، بل لا نشعر بانطواء العمر وانقضاء السنين، ذلك أنك كل يوم تصحو من نومك فتجد كل شىء كما هو محلك سر، نفس المناظر، فى الطريق قد تصادفك أكوام الزبالة ملقاة على قارعة الطريق أو ربما فى منتصفه، فى المكاتب الحكومية قد تجد موظفين كارهين لعملهم، كارهين لكل من يدخل عليهم، أو يطلب منهم طلبا، ليس لديهم حديث إلا عن الإفطار وتناول الشاى والقهوة ولوك الأخبار السارية واجترارها، والأهم هو حديثهم عن العلاوة والفروق والبدلات وكل ما يتعلق بالجنيهات القليلة التى هى كالنواة ..ربما تسد زير الحياة المشروخ.
إذا بعدنا قليلا عن شوارع العاصمة الرئيسية المزدحمة، نجد معظم المدن تفتقر إلى الميادين الواسعة والحدائق، كما أن معظم شوارعها ضيقة وباهتة ومليئة بالمطبات، تشعر بالخواء والتكرار الممل، كذلك فى المناهج الدراسية ما درسناه منذ خمسين سنة معظمه هو هو، والطريقة لم تتغير، بالعكس ازدادت سوءا، وازداد هروب التلاميذ من مدارسهم ليلجئوا إلى بؤر الدروس الخصوصية التى أصبحت كالماركة المسجلة لكل طالب يدخل أى مرحلة من مراحل التعليم فى مصر.
والسؤال الذى يلح على ذهنى: هل افتقدنا القدرة على التفكير؟ أم أننا نفكر ولكننا لا نملك القدرة على التنفيذ؟ هل لا نستطيع أن نغير ما بأنفسنا ؟ هل ليس لنا دخل بمصائرنا؟ أم أن " أولياء أمورنا "لا يريدون أن يشغلوا أنفسهم بأمور قد تفتح عليهم النار، ويتبعون المثل القائل " دع الحمائم راقدة فى أوكارها؟!".
ينشغل أبناؤنا بالدراسة بصورة مملة ولم نفكر يوما: ما حدود هذه الدراسة؟ وهل من المفروض أن تكون بهذه الصورة المكتبية فقط؟ وخصوصا بعد أن تم تفريغ المدارس من الأنشطة، يستهلك التعليم النظرى ردحا من الزمان حتى يجد الطالب نفسه قد وصل إلى سن البلوغ واقترب من سن الزواج ولم يتعلم الأشياء البسيطة التى يصادفها فى حياته.. لا يعرف كيف يصلح شيئا فى الكهرباء أو السباكة أو النجارة أو أعمال الزراعة البسيطة، لماذا؟ لأنها ليست "مقررة" عليه، لم يعد الطالب يهتم بالمسرح ولا بالرياضة ولا بفنون الأدب وإنما اقتصر كل همه على كيفية الحصول على أعلى مجموع يؤهله للدخول إلى كلية يرضى عنها المجتمع وأهله، هل التعلم صار قاصرا على إفراغ الكلام على الورق؟ أعتقد هذا! يدور فى ذهنى السؤال التالى: هل الحصول على الرزق فى هذه الحياة، حياة الإنسان القصيرة فى هذا العالم الجميل، تتطلب كل هذا الجهد والانقطاع للدراسة الورقية المكتبية؟ إن الله قد أراحنا وضمن لنا الأرزاق، فمن البديهى ألا تعود هذه هى القضية، ربما كان لأيام الناصرية أثر فى تفكيرنا- لم يكن يقصده بالطبع عبد الناصر- وهذا الأثر يتمثل فى شيوع التعليم ومجانيته، وضمان الوظيفة بعد التخرج، مما حدا بالبعض إلى ربط الرزق بالتعليم، لكن هذه النظرية أثبتت خطأها، فكم من أصحاب الملايين ممن لا يستطيعون كتابة أسمائهم.
إننا لم نعد ننظر إلى السماء، ولم نعد نرى منظر السحاب ولم نعد نعرف قوس قزح، ولم نعد نتمتع بالشروق أو بالغروب، ولم نعد نحس بالراحة إذا مددنا يد المساعدة إلى أحد من جيراننا مثلا؟ يهمنى أن أتكلم هنا عن البراعم التى تنشأ وفى فمها ماء، لا تستطيع العيش بسعاد ة وهناء، سنوات من عمرها، وهى أحلى سنوات العمر، تضيع هباء لأن المقررات المدرسية لا تترك فرصة لشىء آخر، وصار أيضا فى فمنا- نحن الكبار- ماء، لم نعد نستطيع الكلام أو مناقشة الأمر، الذى صار حجرا على أولياء أمورنا الذين هم فى حاجة ماسة إلى أولياء أمور.
إننا فى حاجة إلى فكر جديد يثور على هذه الأوضاع المتحجرة، فى كل ميادين حياتنا، فى السياسة والاقتصاد والفن والتعليم والزراعة والصناعة، تقريبا فى كل مناحى الحياة، وإذا سألتنى متى أحس بالتغيير؟ أجبتك مسرعا : متى أحس بالبهجة تشمل أبناءنا- بل تشملنا جميعا- وهم ذاهبون إلى معاهدهم ومدارسهم، وبالابتسامة على وجوههم لأن كل واحد منهم وقد انخرط فى علم يحبه، ويمارس هواية أوظيفة يعشقها، ويعيش بالطريقة التى يهواها ويحلم بها.
أين نحن من هذا الأمل الذى هو حق كالماء والهواء فى أى دولة متمدينة؟
أيها السادة المسئولون..من يجد فى نفسه القدرة على البقاء والنضال من أجل التغيير فأهلا به، ومن لم يجد فأرجوه أن يبحث عن طريق آخر..أقول بكل الحب والمودة لمن لا يجد فى نفسه القدرة على مواجهة شياطين الروتين التى تعشش فى كل مكان فى أرجاء مصر الحبيبة، ومن لا يهوى السكوت على الأوضاع المائلة، دع عنك هذا المنصب الزائل، وسيكون لك قصب السبق فى التشبث بالكرامة والصدق واحترام الذات، أطالبكم يا سادتى بأن تتركوا أماكنكم لمن يجد فى نفسه شجاعة المواجهة والرغبة فى التغيير والقدرة على الحرب، حرب الفساد الضارب فى الزوايا والنفوس، والروتين الذى أفسد علينا حياتنا وتركنا لنعبد ما كان يعبد آباءنا..
أيها السادة:
استقيلوا يرحمكم الله!!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة