حادثة الاعتداء الإسرائيلى على بواخر حملة "غزة حرة" القادمة من موانئ تركيا، حليف إسرائيل الإسلامى (المعتدل)، كما يقولون عنه، فى محاولة لفك الحصار الثنائى الرهيب على حماس وأهل غزة، والذى تسبب فى مجزرة قُتِل فيها تسعة أتراك (بناء على المعلومات الإسرائيلية الشبه رسمية) وستة عشر من الأتراك وجنسيات أخرى (بناء على معلومات منظمى الحملة أنفسهم) هو حادث قمىء وغير إنسانى بكل ما للكلمتين من معانى ودلالات. ولكن هذه الدلالات والمعانى لا تهم صانع القرار الإسرائيلى، خاصة إذا كان بينهم - وهم "ديمقراطيون"، شخصًا مثل هذا الأفيجدور ليبرمان، الذى يغنى للشر دائمًا ويفتعل حالة دائمة من التوتر تصل إلى حافة الحرب غرضها الوحيد إثبات كفاءته لناخبيه والعضلات للأعداء المفتعلين ليمكن له بها أن يضمن ويؤمن بقاءه فى حكومة النتانياهو، والذى يختلف عنه فى أسلوب التعبير فقط ويتفق معه وبالكامل فى المضمون العدائى للعالم أجمع عدا جمهور الناخبين المفترض.
وحالة "حافة الحرب" المبتغاة تشرف دائمًا عندما يلوح بصيص خافت وضئيل جدًّا من أمل ما فى بدء مفاوضات ما، وكذلك عندما تبرز إمكانية لفتح حوارات هلامية - دون جدول محدد أو جدول إسرائيلى ينقله الجانب الأمريكى بالوجه الأسمر الجديد- إلى طرف فلسطينى بتشريف الرفيق (ميتشل)، وكذلك أيضًا نرى حالة حافة الحرب هذه مرات لا تُعد عندما تلوح فى الأفق بوادر لضغوط مثل قرص الأذن برفق بالغ، يهدد بها على استحياء يفوق الوصف الراعى الأول والوحيد لعملية السلام الشرق أوسطى، السيد أوباما، رضى العرب عنه وعن أمثاله من مستعملى الفيتو عند الضرورة.
واختلاق الأزمة تلو الأزمة بواسطة استخدام هذا العنف وبهذا الشكل غير المبرر من ناحية، وغير المتكافئ من ناحية أخرى، لا مفر منه للقيادة الإسرائيلية للهرب إلى موقع جديد لا تطاله المفاوضات ولا اللوم من الأصدقاء، والهروب تعلل بجبهة داخلية "ديموقراطية" تتصارع من أجل السلام، سلام الذات أولاً، ولا يكون ذلك بالطبع إلا على حساب دماء... فاقت الألف فى كل من لبنان 2006 وغزة 2009 ولتمتد حمامات الدم متعدية الفلسطينيين واللبنانيين لتشمل الحلفاء الدوليين وبينهم تركيا، والكل سيان، ولكنها وفى كل حالٍ وحالةٍ دماء أبرياء.
ولكن هذا العنف المفرط... وبهذا البشاعة التى لم نعهد لها مثيلا إلا فى حالات إسرائيلية مشابهة فقط... هو لنظام يدعى أو يُطلق عليه "واحة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط"، والديمقراطية فى كل الحالات منها براء، ولكن هذا العنف إن كان يشير لشىء فهو يشير وبالدليل القاطع على أن المشروع الصهيونى لبناء "الدولة اليهودية" فى فلسطين مازال يعيش فى عقول عفى عنها الدهر وشرب، ولم ينته بعد، لأنه لو كان "مشروع الدولة" الصهيونى قد انتهى بالفعل لكان لإسرائيل أن تقدم نفسها ككافة دول العالم كعضو دولى مشترك فى جماعة كبيرة لها ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، وهى حالة لم تصل إليها بعد، لتراعى فيها على الأقل قانون دولى واحد وقرار دولى واحد يتيم، أو حتى واحد من أبسط قوانينها الداخلية المفترضة كدولة يهودية، بداية من "لا تسرق" إلى "لا تقتل" إلى "مراعاة حقوق الجار"، ولكنها لا تراعى لا هذه القاعدة ولا تلك، وتتعامل مدعومة فى حالة (الدولة) من قوة كبرى - هنا الولايات المتحدة الأمريكية – كما كان عليه الحال الصهيونى فى عهد الانتداب البريطانى على فلسطين من حتمية الاعتماد على قوة عظمى لتحقيق حلم الدولة على حساب شعب فلسطينى موجود على الأرض ليبقى ولا يختفى بمجرد ظهورهم على الساحة – وهذه هى معضلة الصهيونية التى لم يجد لها منظروها حلاً يتوافق مع فكرة أن الدولة قد أنشئت، وأن لها شريكا عربيا فلسطينيا عدا عن شركاء عرب آخرين يرتقون لها فى ثوب مبادرات سلامية لا تعنى لها إلا إثبات وجودها رغم أنف الجميع، لتبقى المبادرة فى ملعبها دائمًا، كما كانت وقت الانتداب البريطانى ممثلة فى عدم وجود الشريك والبحث عن شريك على القالب الصهيونى. فوجود الشريك خطر على الفكرة الصهيونية لأنه يعنى الاعتراف بشرعية له لا تبغيها هى، ولأن هذا يعنى أيضًا بأن الاعتراف بالشريك هو اعتراف بالحقوق كما الواجبات وهذا ما لن يتأتى صهيونيًا إلا فى حالة وصول الدولة المفترضة إلى كفاية من الأرض تسمح لها أن تعيش فى سلام مع نفسها أولاً ثم مع العالم والجيران الشركاء - وهذا ما لم تصل إليه دولة إسرائيل بعد.
أن الاعتداء على أنصار السلام يذكرنى بما كانت تدعيه إسرائيل من غزو لقوات فوزى القاوقجى لفلسطين عن طريق سوريا خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، لتقابله بموجات الطرد والتهجير والإرهاب للفلسطينيين، وهذا ما تجنى هى نفسها نتاجه اليوم، ولكن مفتاح البيت الرمز - والذى لم يعد فى الغالب موجودًا - ما زال عالقًا فى أيدى الأجيال، ولن يسقط قبل أن تنال غزة حريتها، والضفة الغربية والقدس الشرقية والمنسيون من فلسطينى ما وراء الأسوار، فالصيحة هذه المرة لا يرددها الفلسطينيون فقط حيثما كانوا، بل كل أنصار السلام فى العالم- فلنقل آمين!
• أستاذ علوم سياسية بجامعة ونسبروك بالنمسا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة