فى تمام الواحدة والنصف ودقيقتين وعشرين ثانية من ظهر يوم الثلاثاء الموافق ثمانية من شهر يونيو، كانت السيارة التى تقل وفد النواب المصريين لكسر حصار غزة، تعبر الخط الفاصل بين الحدين المصطنعين لرفح الشرقية والغربية.
فى هذه اللحظات الفارقة من عمر الزمن، تعطلت كل عقارب الوقت وبدأت ساعة الروح تدق نبضاً فى أوردة اليقين، يزلزل عرش العجز والعمى والخرس، ويصل أول سدرة الأمة بمنتهاها.
كانت السيارة تمشى الهوينى ثقة فى صراطها المستقيم، أما مقاعد الصدق التى احتوتنا فكانت كالبراق فى الإسراء، تحلق بأجنحة المعانى فى دروب السماء.
«أهلاً بكم فى فلسطين» قالها السائق الغزاوى فى فرح حقيقي، فتعانقت كل العيون مع كلمة سر العملية، واصطفت السواعد والمناكب والحناجر، خلف العلم الفلسطينى الذى تتزين به العربة من الناحية اليمنى.
ومازلنا فوق الصراط لا نتحرك، نصفنا فى مصر والنصف الثانى فى فلسطين، واللحظة تمتد بغير نهاية، أما السيارة فقد استوت على الجودى كسفينة نوح، بعد أن جف الماء وتوقف الطوفان، بدا الأفق صحواً عمودى النور بلا غمام أو دخان، لاحت فى مرآة العين نخلة ومأذنة وشجرة تخفى اخضرارها خلف الورود. هل راق المشهد «لحازم فاروق» فأغمض جفنيه على جنته، وأطرق «حمدين صباحي» فى خشوع وابتهال، وهل كان ابتهاج «البلتاجي» بالقصاص لدم البحر حين ترطبت شفتا «عادل حامد» بالتسابيح والدماء.. نحن الآن فوق الحدود كطير قدسي، يرفرف فوق البوابات بلا قيود، نطوى الأرض طياً، لنعلن فى شارع صلاح الدين الذى يمتد من رفح إلى غزة بطول القطاع وحدة التراب العربى.
يا رب.. قتلتنا المعابر، مزقتنا الحدود، وأوقفت الحدود سريان الدم من القلب للشرايين.
يا رب.. وعزتك وجلالك لم تُخلق معاصمنا للقيود، ولا عقولنا للتفتيش، ولا أجسادنا للأسر والقتل، ولا مآقينا لملح الدموع، ولا عظامنا للتكسير، ولا صدورنا للرصاص، ولا أولادنا لليتم ولا نساؤنا للترمل ولا بيوتنا للهدم ولا زراعاتنا للتجريف، ولا أحلامنا للاغتيال.
يا رب.. حكامنا ليسوا لنا، صاروا علينا، سلاحنا نصوبه إلى ظهورنا، نصبُّ الزيت فى قناديل أعدائنا، أموالنا فى خزائنهم، إرادتنا فى أدراج مكاتبهم، نستلذ المنع والغلق والمصادرة.
الآن تتحرك السيارة ببطء حلزونى بين أكثر من بوابة، وعبر مسافة لا تزيد على مائتى متر بدت أسوار قبل أسوار بعد أسوار جنب أسوار خلف أسوار، بينما سهم قافلتنا يخترق الجدران واحداً تلو الآخر، كأننا نصنع ثقباً كبيراً فى فولاذ الحدود، فى تلك اللحظات شعرت أن كتيبة الضمير المصرى قد نجحت فى اختراق الجدار تاركة خلفها ثغرة سوف تتسع كل يوم بالمزيد من اختراق القوافل، حتى ينهار الجدار كاملاً.
فى رفح الفلسطينية كانت القيادات الشعبية وأعضاء المجلس التشريعى فى انتظارنا (د. يونس الأسطل - د. عبدالرحمن الجمل - مشير المصرى). مصر على ألسنة الأشقاء أنشودة وبلسماً للجراح، لا يعادل وزنها ولا قيمتها ودورها أحد، حتى فى حالتها الراهنة بمباركها ونظيفها وأبو غيطها وحبيبها العادلى.
خرجت قافلة الضمير المصرى من النقطة الحدودية لرفح الحدودية باتجاه غزة عبر شارع صلاح الدين، ولا يمكن وصف مشاعر أهل القافلة الذين توحدت أحاسيسهم كعائلة يلفها دفء خاص، النواب التسعة وفريق الإعلاميين (أحمد جلال وأبو زيد وسمر وداليا وماهر وعمر ومحمد غريب).
فى السيارة كان برفقتنا ممثلون عن المجلس التشريعى بالإضافة لشباب حركة حماس، الذى تولى أحدهم - عبر ميكروفون السيارة - شرح الجغرافيا السياسية والنضالية للقطاع.
للوهلة الأولى بدا الطريق كشاهد رمزى على عمق التاريخ وعبقرية الجغرافيا، وبدت كل التفاصيل حوله ذات دلالة، ففى الجهة اليمنى التى يأتى منها العدو شوك وصبار وفى الناحية الأخرى التى تتاخم بحر غزة حيث يعيش أهل القطاع تنتشر أشجار الزيتون والبيوت والمصانع والمعاصر ومحلات البقالة، وتلك هى عبقرية غزة الرئيسية فى تحدى الموت بالحياة، كما يحولون أنقاض القصف إلى مواد بناء لبيوت جديدة.
أما أول البلاد على طريق غزة بعد مدينة رفح فاسمها بلدية «الشوكة» ليس نسبة للتين الشوكى المنتشر فيها فقط، بل لأنها أيضاً كانت دائماً شوكة فى عين العدو أثناء الاجتياحات المتكررة.
ومازالت أشجار الزيتون والتين الشوكى ترافقنا على طريق صلاح الدين حتى نصل منطقة «الفخارى» التى تعرضت للمداهمات الصهيونية المتكررة، فجاء ردها باختطاف «جلعاد شاليط».. على اليمين مازالت البيوت المدمرة شاهدة على همجية العصابة الإسرائيلية، لكن الفلسطينيين نجحوا فى تحويل اليباب إلى بساط من السنابل الخضراء، فالقمح الآن زاداً وزينة تحرسه أشجار التين والزيتون، ويأبى المشهد على طريق صلاح الدين إلا أن يكتمل بأسراب الحمام، التى لا يشبهها سوى حمام الحمى فى الحرمين.
وفى تمام الساعة الثانية وسبع دقائق ظهراً ندخل محافظة خان يونس صاحبة التراث البطولى فى الصمود والمقاومة، وهى بلد الشهيد عبدالعزيز الرنتيسى وعدد كبير من قادة القسام.. على الجانبين تنتشر مصانع الحجارة ومواد البناء، وبجوارها تتوزع مطاعم الفول والفلافل والعجة الفلسطينية، وتستطيع أن ترى بوضوح «المحررات» المزروعة على اليمين بمساحات كبيرة، وكلمة «محررات» أطلقها الفلسطينيون على «المستوطنات» التى تركها الصهاينة خلفهم كرهاً لا طوعاً، وفى خان يونس ارتفع صوت المذيع الداخلى للحافلة أكثر من مرة وهو يتحدث عن عملية فدائية قُتل فيها جنديان إسرائيليان، أو عملية أخرى قُتل وأصيب فيها عدد آخر من أفراد العدو.. وهنا كانت مواجهة كبرى، وهناك نجحت المقاومة فى إيقاف زحف جيش الصهاينة.. وكان مدهشاً وسط كل هذه التفاصيل انتشار الزهور بشكل يلفت النظر.
نحن الآن فى «دير البلح» حيث غابات النخيل، وبرغم كبر أعمار النخل فى دير البلح، إلا أنه لم يعرف الانحناء، وللمصريين فى دير البلح تاريخ من امتزاج الدم المصرى بالفلسطينى عام 1947.. من بين النخل والزيتون والزهر والقمح والتين ظهرت مصانع البسكويت ومواد البناء ومعاصر الزيتون.. نحن الآن أمام مخيمات النصيرات والبريج، والمغازى والزوايدة، تلتصق المخيمات دائماً بالبحر فى شريط ساحلى مكتظ بالسكان (130 ألفاً فى الكيلو متر المربع) ومن الأشياء التى يفاخر بها أهل النصيرات تحقيق الاكتفاء الذاتى من البطيخ.
الآن ندخل وادى غزة حيث منطقة «المغراقة» التى توجد بها محطة الكهرباء، التى يتحكم العدو فى إمداداتها، فيقطع الكهرباء يومياً عن أهل القطاع ساعات طويلة كوسيلة ضغط إضافية لمأساة الحصار.
نبهنا المذيع الداخلى لرؤية مكان استشهاد محمد الدرة، فاقشعرت الضمائر، وارتجفت القلوب، ثم دخلت القافلة إلى منطقة الزيتون، التى تعرضت للقصف والإبادة فى حرب غزة، ونلمح من النوافذ آثار الدمار على مئذنة المسجد، الآن ندخل تل الهوى حيث المجمع الإسلامى ومنزل الشهيد الشيخ أحمد ياسين، ومازالت آثار القصف المتوحش تبدو فى مآذن المساجد والبنايات السكنية ومستشفى القدس ومبنى الإسعاف، بعدها ننتقل لمنطقة الرمال وهى أرقى أحياء غزة نرى على البعد مبنى وزارة الخارجية الذى دكته طائرات الـ إف 16 أكثر من مرة، نقترب الآن من مقر المجلس التشريعى أمام ساحة الجندى المجهول، وقبله بقليل، كنا قد رأينا مبانى الجامعة الإسلامية على اليمين وجامعة الأزهر على اليسار.
كان الاستقبال أكثر من حميم فى مقر المجلس التشريعى الذى تم تدمير معظمه فى الغارات التى قام بها سفاحو العصابة الصهيونية، فبعد أن قصفوا المساجد والمستشفيات وملاجئ الأطفال، كان لابد للعدو الديمقراطى أن يدمر التجربة التشريعية الأولى فى التاريخ الفلسطيني، ليس باعتقال وأسر النواب أو منعهم من الحضور، لكن أيضاً لابد من قصف المبنى كله، حتى لا تقوم لممثلى الشعب المنتخبين أى قائمة، أما جواسيس جيش الدفاع، فلهم كل الحرية والديمقراطية، بل والرفاهية الحرام فى كازينوهات بحر غزة.
تم استقبالنا فى القاعة التى تم قصفها، وكان فى مقدمة النواب والوزراء الدكتور أحمد بحر نائب رئيس المجلس التشريعى الذى حيا فى كلمته مصر والشعب المصري، وطالب بفك الحصار عن غزة بشكل شامل وفتح المعابر للأفراد ومواد الإغاثة، وتحدث فى اللقاء النائبان محمد البلتاجى وحمدين صباحى اللذان أكدا على المغزى السياسى لكسر الحصار عن غزة باعتبارها قضية مصرية ترتبط بأمنها القومى.
وفى قاعة رشاد الشوا افتتح الحضور العرض المسرحى الفلسطينى «فتح القسطنطينية» وقد حاز فريق العمل تقدير وإعجاب الحضور المصرى والفلسطينى.
وفى الشارع الملاصق للمركز الثقافي، أثار فضول الصحفيين والنواب مشهدين متجاورين يمثلان فلسفة فلسطينية لا يخطئ دلالتها أحد، فقد شاهدنا مأتماً لشهيد فى شارع وزفة عرس فى الشارع المقابل.
وتستمر اللقاءات فى مساء الثلاثاء مع النواب الفلسطينيين وفى صباح الأربعاء تشرق شمس غزة على الفندق الملاصق للبحر وللنسائم فى صبح غزة طعم ورائحة، ويمتلئ الثلاثاء بالمقابلات ما بين حزن وبهجة، من قهر الإعاقة لتحدى الأسر للقاء المفعم بالأمل مع «أبو العبد» إسماعيل هنية رئيس الوزراء المنتخب للشعب الفلسطيني، الذى رحب بالقافلة والدور المصري، ثم تحدث عن دروس الحصار على الصعيد الفلسطيني، وأشار «أبوالعبد» لسيناريوهات تخفيف الحصار، التى اعتبرها نوعاً من إدارة للحصار ومحاولات التفافية على صمود الشعب الفلسطينى لتمرير أجندات التسوية، ودعا هنية لاستمرار القوافل البرية والبحرية فى كسر الحصار عن غزة، واعتبر أبوالعبد أن الوضع الآن يدخل مرحلة «عض الأصابع» ومن ثم لا ينبغى على المقاومين أن يفرطوا أو يتنازلوا عما حققوه، وأكد هنية أن القضية الآن لم تعد تخص غزة أو فلسطين، بل صارت أكثر من ذى قبل قضية عربية وإسلامية وانسانية وأكد هنية فى اللقاء على حرصه على المصالحة الفلسطينية ورفضه للانقسام ولام الآخرين على عدم اعترافهم بنتائج الانتخابات، وتآمرهم لاسقاط هذا النموذج، ورفض هنية أن تتم المصالحة بأثمان سياسية تتعارض مع مصالح الشعب الفلسطيني، وتحدث فى اللقاء النائب محمد البلتاجى الذى دعا لفك الحصار على غزة، وسرد البلتاجى تجربة أسطول الحرية لكى يؤكد قيمة الدعم الإنسانى والدولى لقضية رفع الحصار، وأكد النائب حمدين صباحى على معانى صمود غزة كرمز لقدرة الأمة على النصر، وحيا حمدين المقاومة الفلسطينية الباسلة، أما النائب سعد عبود فقد نقل لهنية وللوزارة الفلسطينية مشاعر المصريين البسطاء فى دائرته الانتخابية والدعامة لفك الحصار، وأكد عبود على عروبة القضية ودعا إلى دعم الفلسطينيين بجميع أشكال الدعم بما فيها السلاح.
وفى الجمعية الفلسطينية لتأهيل المعوقين كانت زيارتنا لتجربة رائدة فى العمل الإنسانى يقودها الدكتور نبيل خالد أبوعلى رئيس مجلس إدارة الجمعية والأستاذ بالجامعة الإسلامية، حيث استعرضنا فصول الدراسة وورش العمل.. وفى تمام الرابعة والنصف تحرك الركب من الفندق باتجاه رفح عن طريق البحر.. بحر غزة.