محمد عفيفى مطر يكتب: "خبيئة ميدوزا"

الجمعة، 11 يونيو 2010 02:19 م
محمد عفيفى مطر يكتب: "خبيئة ميدوزا" الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنا خلقًا واحدًا يموج بعضه فى بعض، هى البذور الأولى لكل الخلائق، نغلى ونتقلب فى كف المشيئة، ننتظر مواقيت نضجنا الكونى فى لمسة الرحمة والإيذان بالظهور، حتى نلبس هياكل أشكالنا، وننقف بيض الصخر والماء والطين، وما اختلط وتمازج وتذاوب من كل شىء، فنشهق شهقة الولادة والسعى حسبما يؤذن الميقات وتشاء أقدار المسعى. أنا ميدوزا.. سيدة الصخر، وملكة المرمر، والروح المهيمنة على سر الحجر.

قبل أن أُولد كنت فكرة جوالة تنتظر اكتمالها، حتى غدوت جنينا فى أوهام البشر ومخاوفهم وجنون رغبتهم الشرهة فى كشف المجهول وتصميم الأشكال وتجسيد الأخيلة وممارسة الإبداع، حتى آذن وقتى، وخرجت أتجول فى حكاياتهم العجيبة:
قالوا إننى قميئة مشوهة مرعبة القبح، ووصفونى بالقزامة، تتهدل ضفائرى المشعثة التى ليست إلا ثعابين وحيات تتلوى بصفير فحيحها فلا يملك أحد منى غرة غفلة أو مفاجأة اقتناص، ولا يغالبنى أحد إلا غلبته، والويل لمن يواجهنى عينا فى عين، فإن لى نظرة ساحقة تحول الحى وتمسخه، وتعود به إلى أصوله الأولى حجرًا بين أحجار، وكم وأدت من كائنات تمتلئ بها البوادى والجبال والوديان.

شغلتهم فانشغلوا بحكاياتى، إذ أنا حية أسعى فى أوهامهم ومخاوفهم ومعانى البطولة والإعجاز فى أساطيرهم، وجعلت من مملكتى وساكنيها من الأخيلة والأسرار فى كل حجر أو صخرة أو كتلة مرمر وعاء يمتلئ بالأشكال وهياكل الكائنات، وشاغلتهم فى الصحو والمنام وسوانح الإلهام وبوارق الأخيلة بما أخفيته تحت قشرة الحجر وفى أرحام الصخر من كائناتى المتلهفة للولادة واكتمال الحضور والظهور، وأشعلت جنون الرغبة فى الأيدى وأطراف الأزاميل لكى يشقوا السطوح عن مكنوناتها، وكى يفتحوا صناديق كنوزى ويحرروا جواهر الجمال والرشاقة ومكنون المعانى فى صمتها.

قالوا فى حكاياتهم إن أحدًا لم يغلبنى ويرجعنى إلى حجريَّتى الأولى وينقذ الكائنات من نظرتى الساحقة إلا الفتى "بـيرسيوس"، ونسجوا حوله من حكايات الشجاعة والبطولة وانتصار العشق والجمال، وأحاطوه بأهوال المحن والتجاريب، وساقوا من أفاعيل الذكاء ما يجعله قادرًا على هزيمتى واجتثاث رأسى وإنقاذ الأحياء من نظرتى، والحقيقة أننى كنت قد تعبت وسئمت التجوال فى حكاياتهم، وتركتهم يحددون نهايتى كما يشاءون، لأخرج من ثرثرة مخاوفهم وأوهامهم، تاركةً لهم كنوزى الكامنة فى الصخر، وها أنتم ترون ما استطاع الفنانون النحاتون والمهندسون والبناءون أن يملأوا به المتاحف والكشوف الأثرية وعبقرية العمارة وإنشاء الصروح، وما استطاعت بصائرهم أن تنفذ إليه وراء قشرة الصخرة من هياكل وخطوط وأشكال قاموا بحفرها وتلوينها بصخب الفرح الصامت العميق.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة