عندما يحفل القرآن بالآيات التى تتحدث عن أحوال المؤمنين، وأحوال الكافرين والمنافقين، فلا غرابة، فهو كتاب الله الذى أنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، ليقر الناس بوحدانية الله ويخضعوا لإرادته سبحانه، وعندما يتوعد القرآن قوما ما بالعذاب وغضب الله، فلأنهم كفروا بما جاءت به أديان السماء، فاستحقوا وعيد عذاب الله، ونالوا جزاء كفرهم وعصيانهم، وباءوا بغضب الله واستحقوا عذابه.
لا غرابة إذن فى أن يحفل القرآن بالآيات التى تتوعد هؤلاء، ولكن.. أن يأتى وعيد الله لفئة من الناس ليسوا من هؤلاء، اختصهم القرآن بسورة كاملة، فهذا هو ما يدعو للدهشة، واقرأوا معى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6) - المطففين 1-6، إنه إعلان للحرب من الله على المطففين، ولابد أنهم اقترفوا ذنبا عظيما لينزل بهم عذاب الله، فمن هم المطففون؟
إنهم الذين يحصلون على أكثر من حقهم إن كانوا مشترين، ويبخسون الناس حقهم حين يكونوا بائعين، وبررت الآيات موقفهم هذا بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ولا بالبعث أو الثواب والعقاب، ولكن.. هل يستحق المطففون هذا العقاب الرهيب؟
إن التطفيف هو حالة صارخة من الظلم تمارس فى مجتمعنا على كل المستويات، يمارسها المطففون من بائعى الخضر والفاكهة، وحتى محتكرى الصناعات الثقيلة وأصحاب التجارات الواسعة ولصوص الأراضى ومشترى القطاع العام بأبخس الأثمان، مرورا بكل من يطفف فيما يجرى بينه وبين الناس من تعامل فى المال والخدمات والبضائع، وهذا يشمل بالطبع البنوك والمؤسسات المالية والتجارية الكبيرة والصغيرة، كل من يبخس إنسانا أشياءه، يدخل فى زمرة المطففين، وكل من يستوفى حقه على حساب حقوق الآخرين فهو مطفف، وكل من يحتكر تجارة أو صناعة، حديدا أو زراعة، ويملك بماله أن يُكره الناس على ما يريد منهم، فهو مطفف.
وقد اهتم القرآن الكريم بهذه الظاهرة لما يترتب على االتطفيف من آثار اجتماعية جسيمة وآلام نفسية من القسر والإجبار، يتفشى بها الظلم بين الناس، وتشيع روح الكراهية بين أفراد المجتمع، ويسود الإحباط والانهزام، وتنهار القيم والأخلاق.
وليس أدل على أهمية موضوع التطفيف فى المجتمع، من أن الله، تبارك وتعالى، أرسل رسولاً كريماً هو شعيب، عليه السلام، إلى أصحاب الأيكة، الذين كانوا فيما يبدو محترفى تطفيف، يقول القرآن عنهم فيما وجهه لهم شعيب: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ*- الشعراء 182 و183، فماذا كان عقاب الله لهم؟ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*- الشعراء 189، فنالوا عقابه فى الدنيا، وهم فى الآخرة من الخاسرين.
ولقد جاء الإسلام ليكون دستورا للأخلاق، ومنهجا لو سار عليه الناس، لاستقامت به حياتهم، ولأن الإسلام ليس مجرد كلمات تنطق، أو حركات تؤدى فى الصلاة وغيرها من الطقوس والعبادات، ولأن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل، قد اختص القرآن المطففين بسورة كاملة، ليبين للناس خطورة التطفيف على العلاقات بينهم، وحرص نبينا وقدوتنا محمد، صلى الله عليه وسلم، على أن يؤكد أن: الدين المعاملة.. الدين المعاملة.. الدين المعاملة، لكى يفهم المؤمنون أن الطريق إلى ثواب الله، تبارك وتعالى، ورضوانه هو نفسه طريق الدين المعاملة الحسنة الراقية مع الناس، وبذلك تختفى المظالم، وتستقيم الحياة على منهج الله، وصدق الله العظيم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا*- المائدة 3، والله من وراء القصد.
• سورية مقيمة فى مصر
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة