لكوبرى قصر النيل مكانة «غامضة» عظيمة عند الذين «حفيت» أقدامهم بحثا عن سر هذه المدينة القاهرة، وظيفته لا تختزل فقط فى الانتقال من جهة إلى الأخرى، تشعر هناك بأنك محاصر بالفنادق الكبيرة والأبراج، وتحت قدميك تمضى مراكب لا تعنيك، ومع هذا تذهب، هو مكان محايد للوحيدين والعشاق وبائعى الفل والصور الفوتوغرافية، من الممكن أن تلتقط أنفاسك وأنت تسند ذراعيك على سوره، وتنظر فى الماء ولا تفكر فى شىء محدد، لا تشعر بالرهبة التى وضع مشيدوه الأسود الأربعة لتشعر بها، ولن تهتم كثيراً بجمع معلومات عن كيف ومتى أنشئ، لأنه أصبح مكانا يخصك فى بلد لا شىء يخصك فيه، لكل منا معه حكايات ومشاوير ولحظات فرح ولحظات حزن ولحظات بين بين، أنت هناك فى المنتصف، لأنك تشعر طوال الوقت بأنك فى وسط طريق، إلى أن جاء عمرو موسى عبداللطيف - سامحه الله - وقرر أن يشنق نفسه قرب منتصفه. المشهد كما ظهر فى الصحف والمواقع مؤلم ومقبض وشاذ، ويؤكد أن المدينة الكبيرة عاجزة أمام الضعف الإنسانى، الذى أنشئت المدن لمحاصرته. أنت أمام شخص فقد الثقة نهائيا فى المستقبل، شاب فى بداية العقد الثالث وضع حدا لقلة الحيلة، لأنه فشل فى توفير تكاليف الزواج، تحت صورته فى الشروق الخميس الماضى كانت أرباح عز من الحديد قد زادت 58% خلال الربع الأول من 2010 (مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضى، فى الوقت الذى نفى فيه المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة (فى بلد معظم ما فيه صنع فى الصين) وجود رجال أعمال فى مصر «على راسهم ريشة»، فيما يتعلق بتطبيق قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، عمرو حاول الانتحار ثلاث مرات والجيران أنقذوه كما قالت الصحف، وقيل إنه سلم على أسرته وجيرانه وبشرهم بخبر يهز الدنيا، ثم انتحر، فى الوقت الذى قال فيه عادل معتوق المدعى بزواجه من المطربة اللبنانية المقتولة سوزان تميم أن أسرة رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، المتهم بالتحريض على القتل، دفعت 15 مليون دولار الى الوالد عبدالستار تميم للتنازل عن دعوى التعويض المدنية، وفى الوقت الذى أكد فيه تقرير البنك المركزى المصرى- كما نشر أهرام السبت - أن الجنيه المصرى فى أقوى حالاته، وأن قيمته ارتفعت بنسبة 14 % خلال الشهور الأخيرة، وأن حجم الإحتياطى من النقد الأجنبى ارتفع إلى 35.1 مليار دولار، محققاً ارتفاعاً تاريخياً بما يجاوز معدلات الإحتياطى قبل الأزمة المالية العالمية، ومع هذا انتحر عمرو موسى على كوبرى قصر النيل، لأنه عاجز عن الزواج أو ايجاد فرصة عمل كريمة، ما أقدم عليه هو تحول فى جريمة قتل النفس فى مصر، ويعتبر إنذاراً مبكراً وشديد اللهجة - على حد تعبير خليل فاضل أستاذ الطب النفسى - من الطبقات الكادحة إلى الحكومة وللطبقة المرفهة، لأن مكان الانتحار يعتبر مكاناً إستراتيجياً، انتحار أمام الفنادق والسياح والمصورين، أراد أن يكون بطلا لحادث مأساوى يحقق من خلاله شهرة يعوض بها فشله فى تحقيق أهدافه فى الدنيا، عمرو ذكرنا بعبدالحميد شتا، خريج الاقتصاد والعلوم السياسية المتفوق، الذى رفضت الخارجية المصرية تعيينه لأنه غير لائق اجتماعياً، والذى انتحر فى النيل أيضاً، النيل الذى فشلت الخارجية اللائقة اجتماعياً فى الحفاظ عليه، الانتحار ليس فى ثقافة المصريين المؤمنين بالله وقدره، ولكن الأكاذيب التى تحاصرهم والواقع الذى يعيشونه، يجعل عمرو إنذارا للذين استهانوا بمصائر الناس وأحلامهم البسيطة، ويجعل كلام الذين يدافعون عن الظلم والتزوير ومهادنة الأعداء والفساد مشاركة فى جريمة كبرى يتعرض لها الفقراء فى مصر. ماحدث يجعل عشاق القاهرة فى ورطة أخرى، فكيف للواحد منا أن يستعيد علاقته بكوبرى قصر النيل؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة