محب للحياة، قضاها بين ورق أبيض وأقلام ملونة، فى مسافة قصيرة بين مكتبه الصغير ونافذته المطلة على البحر فى الإسكندرية، يمد أصابعه إلى هذا الأزرق الواسع فيكتب شخصياته ويفاصلها ويفصلها ويتفاوض على أفكار مسلسله وبشر لا تشابه بينهم، جلبابه وقدماه الحافيتان وساعات العمل اليومية التى تبدأ بعد شاى الصبح فى البلكونة الصغيرة جارة البحر فى سيدى بشر، يتأمل الأمواج القادمة من بعيد فى صبر مدهش، يتنبأ بالعواصف التى تأتى مع النوة فتغير الحال، يلتقط من يكتب عنهم فى دقة ونهم، نافذته دائما مفتوحة على البحر وعلى الحياة وعلى الناس، بابه كذلك، مرة قال لى: «جراحة ليزر للعين وأخلع النظارة السميكة المملة وأرتدى نظارة شمس زى الخنافس»، ويضحك ضحكته المهولة التى تهتز لها الجدران. محب الحياة، أحلامه صغيرة، أمنياته بسيطة.. نظارة شمس، مايوه على البحر، واحد شاى، دور طاولة بشرط يكسبه، فيلم عربى قديم، كتاب دسم ملهم مدهش، وقلم حبر. أهديته مرة قلم حبر فكتب لى ورقة «أشكرك على هديتك التى تؤكد أنك تحبنى جدا.. لأننى أعرف كم تحب أقلام الحبر».. أنا أحد الذين احتواهم حسه المرهف بأحبائه.. عابر سبيل مثلى مثل جيل يحب الكتابة ويحب الكتاب.. كيف اختصر فارق العمر بينه وبيننا.. لسانه جعلنا أصدقاء فى حضوره.. نكته الموجعة.. تموّت من الضحك، جسده السمين حين يهتز.. تعرف كم هو سعيد من قلبه.. أصابع قصيرة تقبض على القلم فتشعر أن صاحبها لا يكتب.. إنما يجدف فى مركب صغير فى بحر شتوى غامض، فى نهاية كل حلقة يكتبها.. يتحول إلى طفل انتهى من لعبته فى اللحظة، يقول لك إذا كنت حاضرا هذه اللحظة: «سارت الشخصيات اليوم كما تمنيت.. ساخرة».
ساخر.. هو الساخر من زمنه وأزماته وعمره الضائع هباء فى أحلام طائشة، مدرس فشل فى محراب تعليم تلاميذه وسافر إلى الخليج لعله يشترى شقة لأولاده ويدخر قرشين.. فعاد مديونا بثمن تذاكر العودة.
فاتك الكثير إن لم تستمع له وهو يحكى كيف هرب من صاحب البيت الذى سمع قبضته تكاد تكسر الباب مطالبا بأجرة السكن.. فقفز من الشباك، وتتحول بنظرك إلى وقاره وجسده السمين لتعرف كم كان المشهد ساخرا.. وقاسيا، الأستاذ.. يغضب كالأطفال وأكثر، فيبدو أكثر طفولة وطيبة وودا مما توقعت منه. الأستاذ يغضب إذا فاتك أن تقول له مبروك على مسلسله الجديد، يغضب إذا جاء عيد ونسيت أن تتكلف دقيقتين تقول له كل سنة وأنت طيب، يغضب لأنك.. ولأنك.. ولأنك.. وينسى هو أول من ينسى أنه كان غاضبا منك وعليك، ويأخذك فى حضنه معاتبا وعتابه الوحيد أنك «وحشتنى يا أخ فلان».
المصدوم فى أصدقائه والأسماء التى سارت فى مشوار حياته. صدمتان فقط أفقدتاه قدرته على الضحك المسموع البرىء: من سقطوا من حياته.. فكان سقوطهم خيانة كما وصف، وما ذهب من صحته.. فكان المرض المتعدد مفاجأته القاسية التى لم يتحملها.
محب الحياة.. كان يؤجل كأسه الأخير الذى يرويه ويكافئه فى نهاية الرحلة.. عنده ثقة أن: «الحياة سوف تعطينى متعة أيامها الأخيرة حتما.. لقد صبرت عليها وأملى أن تعوض صبرى خير».. واستقر فى منطقة الانتظار.. فى تلك السنوات الأخيرة ينتظر.. غابت كثيرا ضحكته التى ترج جسده.. حتى وجد نفسه فى المساحة التى لم يتمن أبدأ أن يكون فيها.. أبدا، متأملا مشاهد النهاية من فوق فراش أبيض دون أن يكون قلمه فى يده.. وضحكته مبهرة.
أسامة أنور عكاشة.. اسمه الثلاثى هكذا لم نختصره مرة.. غادر القاهرة ليطل ساخرا من نافذته على البحر فى الإسكندرية.. مجرد هروب.. يستحق خبرا فى الصفحة الأولى من الأهرام.. وليست مساحة بظل أسود فى صفحة الوفيات.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة