عندما ثارت أزمة الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية الأولى، كتبت مقالاً فى الأهرام ناشدت فيه المسلمين بالتعقل فى رد الفعل، ومحاولة فهم مدى قداسة حرية التعبير فى الثقافة الغربية بوجه عام، وأوضحت أيضاً مسئولية المسلمين عن توصيل الوجه الصحيح للإسلام، بعد أن تم اختطافه خلف أقنعة مزيفة لا يمكن أن تكون التعبير الحقيقى عن جوهر هذا الدين القيم، وخاصة موقع التسامح فيه.
لقد أنكرت فى هذا المقال لجوء البعض إلى تهديد السفارات الدنماركية ومواطنى الدنمارك، وأكدت أن ذلك ليس غير أخلاقى فقط، وإنما هو تأكيد لهذه الصورة الزائفة عن الإسلام والتى تم الترويج لها بالحق أو بالباطل خلال السنوات السابقة.
ومن ناحية أخرى، وفى نفس السياق، انتقدت تمحك بعض الأوساط الغربية بمبدأ حرية التعبير، وذكرت أن هذه الحرية قانوناً وأخلاقاً وديناً تتوقف عند حدود الالتزام بعدم الإساءة للغير، وذكرت أنه إذا كانت "حرية التعبير" مبدأ مقدس، فإن "احترام الأديان والمعتقدات" مبدأ مقدس أيضاً، ومن المسلم به أنه إذا امتهن طرف مقدسات طرف آخر، فليس له أن يحتج على عدم احترام هذا الآخر لمقدساته أو لما يعتبره من المقدسات مثل حرية التعبير.
وحيث إن هذه الأزمة تتكرر بشكل أو بآخر فى أماكن كثيرة فى أوروبا، فأنه قد يكون من المناسب أن نعيد النظر مرة أخرى فى الموضوع، مع ملاحظة ما يلى:
• أن الغرب ليس كتلة صماء تتدحرج فى اتجاه واحد، وبالتالى فمن الخطأ التعامل معه على هذا الأساس .
• أن هناك تصاعد للاتجاهات اليمينية المحافظة والمتطرفة فى أغلب الدول الغربية، وهى اتجاهات تستند إلى جذور دينية تختلط ببعض التشوهات الثقافية والتاريخية فيما يتعلق بالإسلام .
• أن ما يسمى بـ"حوار الحضارات" و"تحالف الحضارات"، لم يتجاوز إطار اللقاءات والندوات الفوقية فى الأبراج العاجية لحفنة من المفكرين أو الدبلوماسيين، دون أن يتفاعل بشكل جاد مع القواعد الشعبية فى المجتمعات المختلفة.
• أن أوضاع التخلف الحضارى لأغلب المناطق الإسلامية تؤثر سلباً على خطابها الثقافى من زاويتين: فهى تدفع على الجانب الإسلامى شعور الدونية وموقف الدفاع الانفعالى، ومن ناحية أخرى تدفع على الجانب الآخر الشعور بالاستعلاء والتفوق.
• أن الخطاب الدينى الإسلامى فى عمومه يتنكب المنهج العلمى، لذلك يصل إلى مستقبله بشكل جزئى بل ومتناقض (مثلاً تعريف الجهاد وعلاقة ذلك بالإرهاب، الموقف من المرأة، حقوق الإنسان .. إلخ ).
• أن الحوار المجتمعى داخل أغلب الدول الإسلامية لم يحسم بعض القضايا الجوهرية، مثل: الديمقراطية، علاقة الدولة بالدين، مفهوم حرية الاعتقاد.. إلخ، وذلك بلا شك يؤثر سلباً على الصورة العامة للإسلام.
• أن إسرائيل وبعض مناصريها فى الغرب لديهم مصلحة أكيدة فى استمرار تأجيج التوتر بين المسلمين والغرب، سواء لمواجهة الزيادة الملحوظة فى عدد المسلمين فى الغرب، أو لتأكيد الدعم للسياسات الإسرائيلية (باعتبارها القلعة الأمامية للثقافة اليهودية/ المسيحية فى مواجهة الثقافة الإسلامية).
الملاحظات السابقة هى مجرد إشارات لأعراض ما يمكن أن نطلق عليه " الإسلامو فوبيا " أو الرعب المرضى من الإسلام، ولا بد أن ننظر لتكرار أزمة الرسوم الكاريكاتيرية من هذا المنظور، وهنا تحضرنى قصة عن رجل وقور صادف أطفالا يلعبون فى مدخل بيته عند خروجه، وعندما سأله أحد الأطفال "الساعة كام؟"، أجابه بخشونة بأن يلعب بعيداً عنه، فسأله طفل آخر، فشتمه بعصبية، وبعد ذلك كان هذا الرجل كلما خرج من بيته وقف الأطفال على بعد وهم ينشدون له: "الساعة كام.. الساعة كام !!"، فيهرول خلفهم شاتماً لاعناً، بينما استمرأ الأطفال هذه اللعبة، حتى فقد الرجل وقاره واحترامه..
دعونا نفكر ملياً بعيداً عن عصبية رد الفعل غير العقلانى، وحتى لا تصبح الإساءة للإسلام شبيهة بقصة "الساعة كام"، وقبل أن نتوجه بالنقد للآخرين علينا- بصدق- أن نمارس النقد الذاتى ونتخلص أولاً من العيوب التى أضعفت جهاز المناعة لدى جسدنا الثقافى، أما بيت الإسلام فقد كان له رب يحميه، وسيظل يحميه إلى أن تقوم الساعة.
لقد كان سلمان رشدى كاتباً نكرة لا يعرفه أحد عندما نشر كتابه "آيات شيطانية"، وصدرت فتوى آية الله الخمينى بإهدار دمه، وسارت المظاهرات الغاضبة فى كل الدول الإسلامية تطالب برأس الكاتب وتحرق تماثيلاً له، ووقع العديد من الضحايا أثناء هذه المظاهرات.. وأصبح الكاتب النكرة أشهر كاتب فى العالم، وأعيد طبع كتبه التافهة بكل لغات العالم، وأصبح يدعى إلى مختلف الجامعات والندوات وتنثر عليه الجوائز.
لم يفهم الغرب كيف يعادى المسلمون كتاباً مهما كان هذا الكتاب، مثلما لم يفهم صديق أسبانى لماذا تركت عرضاً مسرحياً يقدم شخصية السيد المسيح بشكل سيئ لم تحتمله مشاعرى، وليس هناك شك فى أن المدعو سلمان رشدى يدين بشهرته للإمام الخمينى، حيث أننى قرأت معظم إنتاجه الأدبى ووجدته لا يستحق الورق الذى كتب عليه.
وقد أغرت هذه اللعبة كتاباً وفنانين آخرين، فوجدنا فى بلادنا العربية من يجترئ عامداً على المقدسات، وبدون أى مبرر موضوعى أو فنى، لمجرد أن يثير غضب الناس، فينال الشهرة ويصبح اسمه بين يوم وليلة على كل لسان.
لقد كان كفار مكة يصبون على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقذع الشتائم والسباب، ويرسلون السفهاء كى يقذفوه بالحجارة حتى تسيل منه الدماء، وكان يطلب من حسان بن ثابت أن يرد شعراً على هجائهم، وكان مع ذلك لا يسأل الله أن يحرقهم أو يزلزلهم، وإنما كان يطلب لهم الهداية لأنهم لا يعلمون، بل وعندما دخل مكة فاتحاً مظفراً، قال لأهل مكة من الكفار: "أذهبوا فأنتم الطلقاء".. هذه هى صفات نبى الرحمة ومنهجه القويم.
وهذه ليست دعوة للتخاذل، وإنما للتدبر وإعمال العقل، ومن يكظم الغيظ ليس الضعيف وإنما هو القوى الواثق من إيمانه، ومنهجه هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يكون جداله بالتى هى أحسن، وإذا خاطبه الجاهلون قال سلاما.
• عضو اتحاد الكتاب المصرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة