ارتج كيانى لمرأى الشاب المصرى الذى سحلته حفنة من الموتورين المندفعين اللبنانيين بعد تجريده من ملابسه وعلقت جثته كالذبيحة على عمود نور. فجيعتى- فى الواقع- لم تكن فقط بسبب بشاعة المشهد وهمجيته، ولا بسبب جنسية الضحية، وإن كنت لا ولن أنكر ان مصريته أثارت عندى كثيراً من الأسى لما وصل إليه حال العديد من المصريين فى الخارج، لن أناقش هنا رد الفعل العفوى لأهل البلدة اللبنانية إزاء ما استشعروه من ألم مشهد المذبحة الجماعية والشعور بوخز من استقبل طعنة فى شرفه، مع أننى مازلت لا أجد مبرراً حتى الآن لتلك الوحشية غير المعهودة فى الإخوة اللبنانيين وفقدان الصواب والعقل، ثم الشماتة التى نضحت فى مختلف وسائل الإعلام اللبنانية، ناهيك عن بعض الجنسيات الأخرى.
موضوعى الآن هو مناقشة ردود الفعل المصرية بعد أن تحولت الجريمة إلى قضية رأى عام مصرى ـ لبنانى ـ عربى ودولى اختلط فيها العام بالخاص والجنائى بالسياسى.
هنا فى مصر انقسم الرأى العام إلى فريقين: الأول ارتدى رداء الدفاع عن المتهم لا لشىء سوى أنه مصرى، وراح ينفث عن غضبه من النظام ويتهمه بالتخلى عن كرامة المصريين ويحمله مسئولية الهوان الذى وصلت إليه أوضاع أبنائنا فى الخارج ويعتمد فى محاولته تبرئة المتهم، الذى تحول إلى ضحية، على أسباب إنسانية وأمراض اجتماعية كان الشاب يعانى منها داخل أسرته وفى وطنه.
والفريق الآخر ارتدى ثوب الادعاء أو القضاء الواقف، وراح ينظر للآخرين من علٍ وكأنه احتكر الحقيقة ويصفهم بالخفة وعدم فهم حقائق الأمور، بعضهم وضع معطف الحكمة والتروى وأنكر على بعض المصريين انفعالاتهم الحادة وطالبهم بالحياد لأن سوء أداء بعض المصريين فى الخارج هو الذى يجعلهم فى مرمى النيران الصديقة أو من منطلق أنه "مادام عمل كده يبقى يستاهل والمفروض أن نتبرأ منه ومن فعلته الشنعاء هذه" من باب الكبرياء المتعقل والنزاهة والحياد و"احنا نقول الحق ولو على رقبتنا". البعض الآخر اعتمر عمامة الإفتاء على رأسه ليحكم بحد الحرابة على القتيل أو أخفى شماتته بالاستدراك على نحو"لو كان فعل هذا" فإنه يستحق قول الله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْى فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
عند هذا الحد دعونى أزعم أننى ابتلعت شريطا كاملا ً من الأقراص المهدئة وأدعى أننى أتحلى الآن بالكثير من الحكمة المطلوبة وأسأل هؤلاء وأولئك: من أين جاءكم هذا اليقين بأنه عمل "كده" فعلا؟ وما هو هذا الـ"كده"؟ وماذا "يستاهل" هذا الشاب بالتحديد؟
وتأتينى الإجابة التى تفسد مفعول أى مهدئات "ماهم بيقولوا"!!
أو "أكيد عمل كده وإلا لماذا فعلوا به ما فعلوه؟"
الجميع بلا استثناء سمحوا لأنفسهم بإصدار أحكام قاطعة استنادا إلى مجرد استنتاجات أو أقوال مرسلة تدعمها بعض القرائن مثل العثور على جلباب وسكين ملطخين بالدم فى منزل المتهم! وشائعات وسمعة سيئة كان الشاب المغدور معروفا بها.
تناسى هؤلاء جميعاً أننا بإزاء تهمتين بجريمتين، الأولى: الاتهام بقتل أربعة أفراد من أسرة واحدة، والثانية: اغتصاب فتاة فى سن المراهقة، ولم تثبت أى من الجريمتين على المتهم حتى وقت الهجوم عليه واختطافه من بين أيدى رجال الأمن وهو قيد التحقيق. أكثر من هذا أن المحققين- وأنقل هنا ما نشر فى الصحف اللبنانية- لم يصدقوا تماما اعتراف المتهم بجريمة القتل فاصطحبوه لمكان الجريمة كى يعيد أداءها ليقارنوا أقواله بالحقائق الافتراضية التى قدمها خبراء المعامل الجنائية.
هنا اسمحوا لى أن ألتحق بهذه الحفلة التنكرية فألبس بدورى ثوباً ليس لى، وأرتدى معطف التحرى الخاص ونظارته ولا مانع من شاربه المستعار أيضا فأطرح هذه التساؤلات: ألا يفسر الشك دائما لصالح المتهم؟ لماذا عمد الأهالى إلى اختطاف المتهم من بين يدى العدالة بينما هو مقبوض عليه وكان فى طريقه ليأخذ جزاءه حال ثبوت التهم عليه؟ أهى غياب الثقة فى القضاء اللبنانى أم رغبة منهم فى تغييب أى دليل أو قرينة أو شهادة قد تدحض الاتهام عن الشاب فيُقتل؟ ثم أين هى تلك الفتاة التى قيل برغبته فى الزواج منها؟ وهل هى التى رفضته أم أهلها ولذلك أراد توسيط الضحيتين المسنين؟ ولماذا العجب من حيازة المتهم لجلباب وسكين مدممين أليس جزاراً؟ ترى هل يمكننا أن نتخيل لأى سبب من الأسباب أن تتوصل المعامل الجنائية إلى عدم صحة الاتهام ضد هذا المتهم المغدور؟ ماذا سيكون موقف سلطات الأمن اللبنانية ساعتها؟ بل ماذا سيكون موقف أهالى القرية الذين تشاركوا فى ارتكاب هذه الجريمة البشعة؟ وكيف يمكننا أن نقرأ تصريح محمد حسن رئيس بلدية كترمايا لصحيفة الشرق الأوسط الذى جاء فيه: "ليس هناك من مطلوبين للعدالة فى كترمايا، وأبناؤنا ليسوا خارجين عن القانون، وبالتالى لن نسكت إذا ألقى القبض على أحد منهم"!! أليس هذا تهديدا واضحا لأجهزة الأمن اللبنانية كى لا تتمادى فى عملية البحث عن الحقيقة ودليلاً على الرغبة فى تصدير حالة من التكاتف والشعور الجمعى بين أهالى القرية بالمسئولية عن تعذيب الضحية المصرى بحيث لو انطرح السؤال عمن يكون الفاعل خرج الجميع وبصوت واحد قائلاً: أنااااااا؟
وما الذى يضمن عدم وجود محرضين استغلوا حاجة الشاب المصرى أو حتى سوء سمعته ليقوم بدلا منهم بالجريمة التى اتهم فيها؟ وما الذى يضمن أنه لم يُستدرج أو يقع ضحية وشاية من أحد غرمائه أو منافسيه فى حب الفتاة أو فى الوظيفة ليوقع به ويتخلص منه؟ وما الذى يؤكد أن قتل الشاب لم يكن لإخفاء جريمة أكبر؟
أذكركم أننى هناـ مثلكم تماماـ أستند إلى أقوال مرسلة نشرت فى الصحف وإلى استدلالات تقوم على الاجتهاد الذى أحتفظ لنفسى بالحق فيه مثلما سمحتم لأنفسكم بإصدار الأحكام وأنتم قعود فى مجالسكم.
كما أذكركم أنتم أيضا يا من تتخفون تحت عمامة الدين
بأن حد الحرابة ـ الذى تستندون عليه- له شروط، وإن لم تتحقق هذه الشروط فى حد الحِرابة أَمْكَنَ للقاضى أن يحكم بالتعزير، والتعزير عند أبى حنيفة قد يصلُ إلى القَتْل. كما أن العقوبات الموجودة فى آية الحرابة مُرَتَّبة، كل عقوبة على قَدر الجريمة، فإن كان قتلٌ مع أخذ مال فالعقوبة قتلٌ وصلب وإن كان قتل بدون أخذ مال فالعقوبة القتل فقط، وإن كان أخذ مال دون قتل فالعقوبة تقطيع الأيدى والأرجُل، وإذا كان إرهاب دون قتل ولا أخذ مال فالعقوبة النَّفى وقال مالك، العقوبة مُخيرة وللقاضى ـ أكرر للقاضى- أن يحكم بما يشاء فيها، لم يذكر الفقهاء أن يقوم الدهماء أو حتى صاحب الحق بتنفيذ حدود الله.
أخيرا ً أذّكركم بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }الحجرات6
وأيضا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}الحجرات12
• كاتبة صحفية بالأخبار
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة