كما لو أنها مصادفة أن يُغيّب الموت المفكر المغربى محمد عابد الجابرى والكاتب المصرى الساخر محمود السعدنى فى يومين متتالين.. الجابرى الذى كتب "نقد العقل العربى" محاولا قراءة طبيعة العقل العربى كاشفا عن أن العقل العربى ـ بمصطلحه البديع- عقل مستقيل، لا يشارك لا فى صنع القضايا الكبرى ولا حتى فى الجدل حولها، كما لو أنه عقل معتزل العالم، ورغم أن ثلاثيته "تكوين العقل العربى" وبنية العقل العربى" و"العقل السياسى العربى" والتى أثارت جدلا صحيا كبيرا فى الثقافة العربية لأنها اعترفت فى نهاية رحلتها بأن العقل العربى مختلف تماما عن العقل الغربى، حتى أنه يحتاج لإعادة تدوير وابتكار، رغم ثلاثيته هذه برصانتها العلمية والفكرية فإنها- للمصادفة- تشتبك دون أن تعنى بذلك مع أكثر الكتب جمالا فى مسيرة الكاتب الشقى محمود السعدنى وأعنى به "حمار من الشرق".
فى حمار من الشرق، والذى لا يخفى على أحد قصدية المشابهة الساخرة لكتاب توفيق الحكيم "عصفور من الشرق"، يتخيل السعدنى أن ثمة شخص مصرى أصيل قد سافر للغرب- لفرنسا تحديدا- باحثا عن اللذة والنساء وافرات البياض، وهنا تلقفته باحثة فرنسية فى علم الأجناس لتؤكد له أنه كائن نادر سليل فصيل أكثر ندرة من العصر الحميرى الأول، لتتوالى الفصول التى تجعلنا- بينما نقرأ- نُفجع لكوننا- نحن أيضا- من فصيل نفس العصر الحميرى!
عابد الجابرى- برصانة تليق بمغربى- يقول فى تكوين العقل العربى "دمج العلم فى الدين والدين فى العلم علامة من العلامات البارزة التى يكشف فيها العقل المستقيل عن نفسه وهويته، إنه يطلب أن يعقل عن الله حتى تلك الأمور التى تركها الله للإنسان كى يعقلها مباشرة عن الطبيعة فيسخرها لمصلحته أو يتخذ منها دليلاً وهادياً إلى إثبات وجود الله نفسه، هذا فضلاً عن تلك الأشياء التى قال فيها نبى الإسلام (ص): أنتم أدرى بشئون دنياكم، فلنتبع آثار ومواقع هذا العقل المستقيل فى الثقافة العربية الإسلامية التى استشرى خطره فيها رغم الحديث المذكور، بل رغم كل ثقل المعقول الدينى البيانى العربى".
أما السعدنى بسخرية سوداء تليق بمصرى فإنه يقول على لسان الحمار الآتى من الشرق "سر الأبدية أننا دائمو التحديق إما تحت وإما فوق، بعضنا ينظر تحت قدميه فى الطريق ليقرأ قصة الحياة مكتوبة على الأسفلت.. أو بحثا عن فرنك سقط من جيب مثقوب.. أو عن عقب سيجارة لم تأكله النار الوالعة.. وبعضنا ينظر إلى فوق باحثا عن القوة الأعظم طالبا منا فى أدب عظيم.. عشا الغلابة عليك يا رب"، كما لو أن العقل المستقيل يتحرك على ساقين فى شوارع باريس باحثا عن عقب سيجارة يُنهى به ليلته لينام راضيا مرضيا عنه بعد أن أكل وشرب وحَبَس وضاجع وترك للآخرين مهمة صياغة العالم، فهى مهمة لا تليق بكائن نادر.
لهذا فقد لوحق كل من الجابرى والسعدنى كل فى ملعبه، لاحق الاستبداد الفكرى المنغلق على ذاته الجابري، ملحقا به تهما جاهزة لكل مفكر أصيل، كالكفر والتآمر على الإسلام، لدرجة أن أحد أعلام الاستبداد الدينى أرسل إليه رسالة يُحذره فيها من استكمال مشروعه "مدخل إلى القرآن الكريم" حتى قبل الشروع فى كتابته وهو المشروع الذى لنا أن نشعر بالمرارة، لأنه لم يكتمل.
بينما لاحق الاستبداد السياسى بقوته الباطشة السعدنى فى كل أرض وطأها، لدرجة أن السادات قرر منع ظهور اسمه فى الصحف المصرية حتى ولو كان هذا الظهور فى صفحات الوفيات!. هذا قبل أن يضعه كل من النظام الإيرانى والليبى وغيرهما ضمن المشاكسين الأشقياء.
كما لو أنها مصادفة، لكنى من الأشخاص الذين لا يؤمنون بالمصادفات بلا سبب معقول، لهذا فإنى لا أرى تعسفا فى قراءة غياب الكاتبين الكبيرين فى الوقت نفسه. ومع هذا فلا أرى فى ذلك علامة على أن الآوان قد آن لتغييب فكرة العقل المستقيل والاستسلام لعلى حرب مثلا ـ وهو مفكر كبير بحجم الجابرى ـ فى رفضه لفكرة وجود عقل عربى مخالف للعقل الغربى حتى ولو اختلفت تجلياتهما، ولا فى تغييب فكرة أننا كائنات نادرة تنتمى لفصيل يمتد للعصر الحميرى، بل على العكس، فإن الموت المفاجئ لهما يدعونا لإعادة قراءة المنجز الفكرى للجابرى والمنجز الأدبى الساخر للسعدنى، علنا نهتدى لطريقة للخروج من النفق الحضارى المظلم الذى يحاصرنا بعقول هزها الطرب لمقولات السلف الصالح وغير الصالح، وأسكرها الترتيل المدهش لأفكار كانت أصيلة فى وقتها لكنها لم تعد كذلك، هذا قبل أن نفاجأ بأنفسنا ذات يوم نقف أمام المرايا ويفجعنا استطالة آذاننا وانبعاج أسناننا!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة